بين أرخبيل غالاباغوس الساحر وجامع العيدروس في عدن، وما يختزنه كل من المكانين من دلالة تقف على الطرف النقيض من الآخر، يرتحل المتلقي في استكشاف وميض منبعث ليس من “عصبونات الدماغ”، إن جاز التعبير، بل من “خلطة خاصة” بحبيب عبدالرب سروري في روايته الأخيرة “وحي”. يسترجع غسان (الشخصية الممسكة بزمام السرد) بعد أن لدغته وحي بإيميل مغرٍ، قصةَ “حادث جامع العيدروس” وجرته ليسرد ما حصل معه حين تلصص من ثقب قبة الجامع، واكتشف ما ينسجه رجال الدين من “مؤامرات” تتلف الأدمغة، وتحول الأشخاص إلى شبه دمى مشلولة التفكير. هناك، سقطت كل الحواجز. تصوير الروح فتح استرجاع هذه الحادثة، في مراسلاته مع وحي، أبواب السرد على نوافذ متعددة: وأنت تقرأ رواية “وحي” تجد نفسك وكأنك أمام جهاز كمبيوتر ينقل إليك عبر تقنيات السرد والوصف والاسترجاع، في اللحظة نفسها، مشاهد متناقضة، كما هي الحياة تماما. يكاد الراوي يسلب القارئ في الكثير من الأحيان من المكان الواقعي وينقله إلى أمكنة مدهشة، فيتسلق تلك السلالم ويرتقي درجاتها لا للتعرف من خلال هذه النافذة إلى عوالم أرخبيل غالاباغوس والسلاحف العملاقة والأنواع الحيوانية المعرضة للانقراض، بل ليكتشف بنفسه متعة البحث العلمي بعيدا عن أي محاولة لتسطيح العقل البشري. وفي المقابل نافذة تحيلك على الجهل الممنهج الذي يقوم به رجال الدين، من استغباء الناس والاستخفاف بهم وتسفيه العقول، ونافذة ثالثة تنفتح على المجازر الدموية وصراعات الحرب الأهلية في اليمن. ونافذة تأخذك إلى كبار العباقرة والمفكرين. وثمة نافذة تحيلك إلى مكان ما حيث تقبع وحي. من ناحية ثانية، يقدم الكاتب في هذه الرواية بذرة مشروع تحرر للتخلص من العنف ورفْض الآخر انطلاقا من احترام حرية الآخرين ومعتقداتهم وأفكارهم، وإن كانت مناقضة لما نفكر فيه أو نعتقد به. لذلك لا بد كما يقول من تقديم “قيم تنويرية” جديدة، وإيجاد سبل للوصول إلى عقول الناس. وهذه المسؤولية تقع على عاتق أصحاب العقول النيّرة. ما يطرحه سروري من خلال كتابته الروائية هو التحفيز على التفكير، واعتماد العقل، وإبطال السيناريوهات الظلامية التي من شأنها إعداد جيل مثخن بالرجعية، بعيد كل البعد عن العلم والمنطق. ولا يمكن أن تبدأ هذه العملية إلا من الداخل. لذلك قد تكون الرواية محاولة كشف أو تصوير الروح من الداخل والخارج في الوقت نفسه “أن تصوبها في القعر، وبانوراميا في آن واحد”. الكاتب يقدم في هذه الرواية بذرة مشروع تحرر للتخلص من العنف ورفْض الآخر انطلاقا من احترام حرية الآخرينالكاتب يقدم في هذه الرواية بذرة مشروع تحرر للتخلص من العنف ورفْض الآخر انطلاقا من احترام حرية الآخرين إن التمزق الذي تقوله الرواية على لسان غسان لا يبدو أنه تمزق اليمن وحده، بل هو يختصر الانقسامات والحروب والفتن التي تحصل في مختلف الدول العربية. يقول غسان “ماتت عدن التي عرفْتُها، وحلت محلها أخرى، حزينة مغتصبة حتى اليوم، تزداد آلامها مع الزمن”. ونقول معه “ماتت بيروت التي نعرفها، وحلت محلها أخرى”. ماضي اليمن والعرب على حد سواء لا يختلف عن غدهم، لا ضرورة لاسترجاع الماضي. لذلك وبالعودة إلى الاسترجاعات في الرواية، نجد أنها تتوزع على نوعين: نوع من الاسترجاع المتغلغل في زمن الموت والهلاك والحرب في اليمن، أما النوع الثاني من الاسترجاع فهو على النقيض تماما، استرجاع رحلة إلى بومبي. شخصيات بلا هوية يقدم حبيب عبدالرب سروري في رواية “وحي” نماذج من الشخصيات التي شهدت تحولات مفاجئة في النص الروائي “عبدالقهار على سبيل المثال علامة تناقض فارقة، فهو ابن إمام المسجد، ولكن بعد الانقلاب السياسي في 1969 وتصاعد المد الثوري صار قهاروف (..) الطفل المدلل لرأس القيادة السياسية الماركسية-اللينينية”، إنه يرمز إلى ما يشبه الانفصام الذي يعيشه الفرد في العالم العربي، يقضي دهرا مقدسا أفكارا، وفي لحظة واحدة ينحرف إلى النقيض تماما. ولا يكتفي بتغيير قناعاته والقيام بتحول معاكس عن مساره، وإنما يفرض على من حوله الامتثال له وأن يكونوا صورة عنه. هذه الأزمة في عدم تحديد الهوية ليست أزمة قهاروف وحده، بل صارت أزمة جيل بأكمله، يفتقر إلى القيم والمبادئ، تراه ضالا، منهم من استهوته مدن المقابر الجماعية وتفنّن في إذلال الناس والتنكيل بهم، ومنهم من أصابته لعنة النبوءات، فصار “لكل مدينة يمنية تقريبا مهدي منتظر له موقع على الإنترنت”. ومن الشخصيات التي عرفت تحولات جذرية الابن الأوسط لإمام المسجد: عبدالباري الذي ظهر “غريب الأطوار، في علاقة غير سهلة أو سعيدة مع أبيه”. لقد مسته تفاعلات حادث جامع العيدروس وهرب من القرية إلى عدن. لكن هذه الشخصية المشبعة بالتناقضات لا تلبث أن تتحول إلى أيقونة النزيف: بعد عودته إلى القرية هربا من الحرب، حلم عبدالباري بأن عليه ذبح طفله بساطور “قربانا إلى الله لتتوقف الحرب وينتهي الشر في العالم (..) وذبح ابنه عند باب الجامع مباشرة”. وبالنظر إلى عوالم السرد ومستوى الخطاب يبدو عبدالباري وقهاروف على النقيض تماما من غسان وزوجته شهد، فالحكي على لسان هذين الأخيرين مبني على التساؤل والشك والرفض والبرهان، بحثا عن الحقيقة. أما إحياء العقل العربي من موته، كما يبدو من خلال هذه الرواية، فيكون من خلال التعاطي مع قصة الوحي، والقصص الدينية، ليس كحقيقة تاريخية، بل من طريق قراءتها “على نحو مجازي، كميثولوجيا وليس كتاريخ”. وقد شكلت الرسائل الإلكترونية التي تبادلها غسان مع وحي مساحة خصبة لنقاش مسلمات دينية ومجالا لطرْح السؤال بصيغته من دون مواربة كما هو حول مسألة الوحي. يقول غسان “ماذا لو كان الوحي وهما تاريخيا، أبَ الأوهام؟”.
مشاركة :