مواصلة لما بدأناه في المقال الأول عن هذه المنظمة الإرهابية التي كانت تمثل البذرة السيئة الأولى لنشأة الجيش الإسرائيلي الحالي المدعم بأحدث تكنولوجيا السلاح الرهيب الذي ينشر الرعب في كل منطقة الشرق الأوسط. فقد تطورت منظمات الدفاع اليهودية في فلسطين من مجموعات صغيرة للدفاع عن النفس كما تدعي خلال الحكم العثماني إلى مجموعات أكبر حجما وأكثر عددا وتطورا، وخاصة في فترة الانتداب البريطاني، وكانت كل خطوات التطور مرسومة في ذهن المستعمِر البريطاني والمُحتل الإسرائيلي خطوة خطوة، ممثلا في مجموعة بارغيورا، وهاشومير، ومنظمتي الهاجاناه والأرجون، وأخيرا.. جيش الدفاع الإسرائيلي الحالي. بدأ المشروع الصهيوني في فلسطين بإنشاء منظمات شبه عسكرية يهودية، وكانت أولى هذه المنظمات هي بارغيورا التي تأسست في شهر سبتمبر من عام 1907م، حيث كانت تتألف من مجموعات صغيرة من المهاجرين اليهود الذين كانوا يحرسون المستوطنات مقابل رسوم سنوية. وفي عام 1920م خرجت إلى حيز الوجود ما يعرف بمنظمة هاشومر وهي منظمة نخبوية ذات تجمع ضيق، وكان سبب إنشائها في الأساس هو الحماية من العصابات الإجرامية التي تسعى إلى سرقة الممتلكات أثناء الحرب العالمية الأولى. ثم بعد ذلك تم تأسيس منظمة الهاجاناه وهي عبارة عن فيالق يهودية ضمن الجيش البريطاني، وكان تاريخ تأسيس هذه المنظمة في شهر يونيو عام 1920م، لتمثل قوة دفاعية واسعة النطاق وخاصة بعد أحداث الثورة العربية في الأعوام 1936م - 1939م في فلسطين المحتلة، وقد بدأت بهيكل تنظيمي يتألف من ثلاث وحدات رئيسية هي الفيلق الميداني، وفيلق الحرس، وقوة البلماخ، لخلق إضرابات مصطنعة خلال الحرب العالمية الثانية وما بعدها والذي يعد من أبرز أنشطة منظمة الهاجاناه وبصورة ملفتة خاصة أثناء الحرب الأهلية التي دارت رحاها خلال العامين 1947م و1948م، بين المواطنين العرب الأصليين والمستوطنين اليهود الغرباء عن فلسطين إبان عهد الانتداب البريطاني، في هذه الظروف استطاعت منظمة الهاجاناه إعادة تنظيمها من أجل الدفاع كما تدعي عن معظم الأراضي التي صودرت وتم السيطرة عليها، وعند بداية الحرب الواسعة التي دارت بين الجيوش العربية النظامية واليهود المستوطنين مباشرة بعد إعلان قيام ما يسمى دولة إسرائيل خلال عامي 1948م و1949م، أعادت الهاجاناه مرة أخرى تنظيم صفوفها وهياكلها لتصبح العمود الفقري لقوة الدفاع الإسرائيلية الجديدة. لعبت منظمة الهاجاناه دورا رئيسيا ومؤثرا في الحرب على الفلسطينيين، عندما اعتقدت القيادة اليهودية في فلسطين أن البريطانيين الذين منحتهم عصبة الأمم آنذاك تفويضا على فلسطين في عام 1920م، لم تكن لديهم الرغبة في مواجهة العرب الفلسطينيين بصورة ترضي المستوطنين اليهود، فقامت هذه المنظمة بمواصلة الاعتداءات ومطاردة الفلسطينيين أينما حلُّوا، ورأت انه لا يمكن الاعتماد على الإدارة البريطانية لحماية اليهود من هجمات الفلسطينيين كما كانت تدعي، لذا اعتمدت القيادة اليهودية على منظمة الهاجاناه لحماية المزارع اليهودية. كما أن للهاجاناه دورا بارزا في تحذير السكان اليهود وصد الهجمات التي يشنها العرب الفلسطينيون. كان تكوين الهاجاناه يفتقر إلى السلطة المركزية القادرة على تنسيق القوى بين أفرادها باعتبار أن وحداتها تمثل وحدات محلية وليس لديها السلاح الجيد كما تدعي الذي تستطيع أن تحارب به، وأن أفرادها مجرد زارعين يهود يتناوبون على حراسة مزارعهم والكيبوتزات الخاصة بهم. ولكن بعد عام 1929م، تغير دور منظمة الهاجاناه بشكل كبير، حيث تحولت إلى منظمة أكبر حجما تضم في صفوفها جميع الشباب البالغين ضمن مجتمع المستوطنات اليهودية، يضاف إليهم الآلاف من الأفراد الذين يعيشون في المدن، كما حصلت على أسلحة جديدة من أطراف أجنبية، هذا بالإضافة إلى قيامها بتطوير ورش عمل لصنع قنابل يدوية ومعدات عسكرية بسيطة، وتحولت من مليشيا غير مدربة إلى جيش منظم قادر على العمل تحت الأرض. ومن أهم الثورات العربية التي قامت في فلسطين كانت ثورة 1936 و1939م، التي نشطت فيها منظمة الهاجاناه في حماية المصالح البريطانية وقمع التمرد العربي على الرغم من أن الإدارة البريطانية المهيمنة على الأراضي الفلسطينية العربية لم تعترف رسميا بالهاجاناه، ومع ذلك تعاونت قوات الأمن البريطانية مع هذه المنظمة الإرهابية في صورة تشكيل شرطة الاستيطان اليهودية والفرق الليلية الخاصة التي تم تدريبها بقيادة العقيد البريطاني أوردي وينجيت. خلال عام 1939م، أصدر البريطانيون ما يعرف بالكتاب الأبيض الذي فرض قيودا صارمة على الهجرة اليهودية إلى فلسطين، ما أغضب القيادة الصهيونية بشدة وخاصة رئيس الوكالة اليهودية آنذاك ديفيد بن جوريون، وهذا ما دعاه إلى وضع سياسة جديدة تقوي العلاقة الصهيونية مع البريطانيين، وقد صرَّح بأن اليهود سيحاربون ضد هتلر مع البريطانيين بغض النظر عن محتوى الكتاب الأبيض، وفي الوقت نفسه سيحاربون الكتاب الأبيض بغض النظر عن اشتراكهم في الحرب. وكرد فعل على ما تضمنه الكتاب الأبيض قامت منظمة الهاجاناه بتأسيس مليشيا البلماخ كقوة ضاربة من النخبة المكونة للهاجاناه، والإسراع في تنظيم الهجرة اليهودية غير الشرعية إلى فلسطين، وبهذا العمل استطاعت هذه النخبة جلب ما يقارب المائة ألف يهودي إلى فلسطين بواسطة أكثر من مائة سفينة فيما كان يعرف باسم (بيت عالية). هذا غير المظاهرات التي تم تنظيمها من قبل الهاجاناه ضد حصص الهجرة التي حددتها بريطانيا الدولة المستعمرة لفلسطين. وللوقوف على مدى التعاون والتنسيق القائم بين القوات البريطانية المحتلة وبين الصهيونية العالمية والمستوطنين اليهود في فلسطين، فإن الجيش البريطاني المحتل قد أعلن إنشاء مجموعة اللواء اليهودية، وسمح لليهود المستوطنين في فلسطين بالتجنيد في الجيش البريطاني منذ عام 1940م، وقد تألفت مجموعة اللواء اليهودي من خمسة آلاف جندي تم توزيعهم بداية مع الجيش البريطاني الثامن في شمال إفريقيا، ثم في إيطاليا عام 1944م، وفي عام 1946م تم حل هذا اللواء. بشكل عام فقد خدم في الجيش البريطاني ما يقترب من الثلاثين ألفا من اليهود المستوطنين خلال الحرب العالمية الثانية. وكان لمنظمة الهاجاناه دور بارز بعد الحرب العالمية الثانية؛ إذ شكلت مع منظمتي الأرجون والليهي حركة المقاومة اليهودية عام 1945م، ضمن إطار جديد وبقيادة مشتركة للمجموعات الثلاث بقصد العمل متضامنين لطرد البريطانيين من فلسطين تمهيدا واستعدادا لإعلان دولة إسرائيل اليهودية، ولتحقيق ذلك نشطت الهاجاناه مع زميلتيها في التمرد على البريطانيين حيث نفذوا عمليات ضد الجيش البريطاني المحتل عن طريق عدة غارات استهدفت معسكرات المعتقلين، والجسور، وقواعد الشرطة الفلسطينية، كما نشطت في تنظيم الهجرة اليهودية غير الشرعية كجزء من برنامج (بيت عالية)، ثم استعدت الهاجاناه بصورة سرية للحرب ضد العرب بمجرد مغادرة بريطانيا لفلسطين. وهذا ما جرى في الواقع الذي حقق لليهود حلمهم في وطن قومي في فلسطين.
مشاركة :