لم يكد الروائي الكويتي إسماعيل فهد إسماعيل يشارك في ندوة حول روايته الأخيرة «صندوق أسود آخر» أقامها «الملتقى الثقافي» في الكويت ليل الأحد - الإثنين، حتى فاجأه الموت صباح اليوم التالي. لم يواجه إسماعيل الذي رحل عن 78 عاماً، ما يسمى وطأة الزمن وأزمة الكتابة، فكان غزيراً وألّف نحو أربعين رواية أرفقها بأعمال قصصية ونقدية ومسرحية. لكن غزارته لم تعنِ بتاتاً السقوط في شرك الرتابة والتكرار، فهو كان يتحرك كروائي وقاص، في فضاء رحب من الموضوعات والقضايا والأساليب السردية، وهذا ما منح عالمه الروائي مواصفات التعدد والثراء. ولئن كان إسماعيل وفياً كل الوفاء لهويته الكويتية، فهو كان عربياً وعروبياً أحياناً، لا سيما إزاء القضية الفلسطينية التي شغلته مثقفاً وكاتباً في ما نجم عنها من هزائم وخيبات. ولم يكن إصداره رواية عن ناجي العلي قبل عام بعنوان «على عهدة حنظلة»، إلا إصراراً منه على بلورة القضية من خلال شخصية حفرت عميقاً في الوجدان الفلسطيني والعربي. في هذه الرواية، ينطلق إسماعيل من غرفة العناية الفائقة التي كان يرقد فيها الرسام الكبير غائباً عن الوعي، ليفتح صفحات حياته ونضاله. وقد يكون مفاجئاً أيضاً أن تدور روايته الأخيرة «صندوق أسود آخر»، التي لم يتسن له متابعة ردود الفعل حيالها، حول قضية «البدون» التي يصفها بـ «صندوق أسود معلّق بحبل الزمن» دلالة على استعصاء حل هذه القضية الشائكة، وكان هو عالج مأساة «البدون» في روايات أخرى منها «في حضرة العنقاء والخل الوفي». ولعله من القلة الذين خبروا هذه المأساة، مأساة اللامنتمين، فهو ولد في البصرة، ولكن من جذور كويتية، وعاش في العراق سنوات يعمل في التدريس، لكن الكويت كانت مستقره وبوصلته. عاش في مصر وفي لبنان وسافر كثيراً، وعقب اجتياح جيش صدام الكويت، سافر إلى الفيليبين، وأقام فيها نحو سبع سنوات مع زيارات متقطعة لبلده الأم، وكتب من وحي الاجتياح الآثم رواية عنوانها «إحداثيات زمن العزلة»، عبّر فيها عن هذه المأساة التي عاشها الشعب الكويتي. في العام 1970، أصدر إسماعيل في القاهرة روايته الأولى، «كانت السماء زرقاء»، بعد باكورة قصصية بعنوان «البقعة الداكنة»، وحملت مقدمة كتبها الشاعر الرائد صلاح عبدالصبور. هذه المقدمة فاجأت قراء هذا الروائي الشاب مثلما فاجأت النقاد، وكتب فيها عبدالصبور يقول: «أدهشتني الرواية ببنائها الفني المعاصر المحكم، وبمقدار اللوعة والحب والعنف والقسوة والفكر المتغلغل في ثناياها». عرفت الرواية رواجاً، خصوصاً بعد منعها في مصر، وقدمت إسماعيل كروائي جديد صاحب موهبة كبيرة ما لبثت أن تجلت في أعماله المتتالية. ورواية تلو أخرى، منها ثلاثية، تمكن إسماعيل من أن يفرض نفسه كروائي كويتي وعربي. وهو علاوة على كونه أبا الرواية الكويتية وأحد مؤسسي الرواية الخليجية المعاصرة، احتل مرتبة في الحركة الروائية العربية، سواء من ناحية الموضوعات الجديدة وغير المألوفة التي تطرق إليها، ومنها قضايا الوافدين إلى الكويت و «البدون» وفلسطين، عطفاً على شؤون إنسانية وتاريخية، فردية وجماعية، فلسفية ووجدانية، أم من ناحية الشكل أو الأسلوب السردي. فهو اعتمد تقنيات عدة، كلاسيكية وحديثة، منها: التعدد الصوتي في الرواية أو «البولوفونية»، والديالوغ، والمونولوغ أو تيار الوعي، والمسرحة، والتقنية السينمائية... وعندما اندلعت الحرب الأهلية في لبنان كتب رواية عن هذه الحرب بعنوان «الشياح» (1976) بدت شبه تقريرية، حافزها الالتزام اليساري الذي دفع روائيين عرباً آخرين إلى الكتابة عن هذه الحرب، منهم على سبيل المثل صنع الله إبراهيم. كان إسماعيل غاية في التواضع والإلفة، لم يسع وراء الصحافة والضجيج الإعلامي، وعاش في ما يشبه العزلة الإبداعية، لكنه كان، كما يقول عنه الروائي والقاص طالب الرفاعي، «الشجرة التي يستظل بها المبدعون في الكويت». ولم يتأثر بتاتاً عندما بلغت روايته «السبيليات» القائمة القصيرة في جائزة «البوكر» 2017، ولم تفُز بالمرتبة الأولى، وهو حاز أصلاً جوائز كبيرة عدة، منها جائزة العويس. وعندما فاز الروائي الكويتي الشاب، أحد تلامذته، سعود السنعوسي قبل سنوات بجائزة «البوكر» عن روايته «ساق البامبو»، هنّأه ورحب بهذا الفوز الكويتي الأول.
مشاركة :