برحيل المفكر الاقتصادي والاجتماعي المصري جلال أمين صاحب أكثر من 30 كتابا، تفقد الساحة الثقافية العربية واحدا من رموز الفكر الحيوي، الذي دمج الفكر الاقتصادي بالثقافي، وكان صوت العرب الوسطي الذي ابتعد عن الانفعالية في طروحاته وقدم رؤى متوازنة وفعالة لا تزال مدعاة للتساؤل والبحث والتفكيك. القاهرة – غيّب الموت الكاتب والمفكر المصري جلال أمين، مساء الثلاثاء، عن عمر ناهز ثلاثة وثمانين عاما بعد رحلة قصيرة مع المرض، تعمد أن يتحمل أوجاعه فيها بنفسه دون أن ينقل همومه إلى كثير من أصدقائه ومحبيه ومريديه. يُعد أمين المولود عام 1935 أحد أبرز مفكري الاقتصاد الاجتماعي في مصر، وكان من القلائل الذين نجحوا في تقديم قراءات عميقة ومبسطة لهذا العلم الدقيق ونظريات التنمية المتعددة. وحقق ذلك من خلال مؤلفات عديدة تعرضت بشكل مباشر للطبقة الوسطى وتحولات المجتمع المصري. المثقف الحيوي ينظر كثيرون إلى جلال أمين باعتباره نموذجا للمثقف الحيوي المتسق مع ذاته، والباحث عن الحقيقة، إذ بدأ حياته بعد تخرجه في كلية الحقوق جامعة القاهرة عام 1955 باحثا قوميا اشتراكيا، قبل أن تجرفه إخفاقات التحولات الاجتماعية والثقافية والسياسية ليتحول إلى الليبرالية، لكن بصبغة عصرية منحها مسحة خاصة تتعلق بضرورة وجود قدر وافر من العدالة الاجتماعية. يعتبر أستاذ علم الاقتصاد بالجامعة الأميركية في القاهرة، واحدا ممن شرحوا باقتدار هموم الثقافة والمجمتع في مصر، وهو ما ظهرت تجلياته في كتابه الشهير “ماذا حدث للمصريين” والذي رصد فيه تطورات المجتمع المصري في نصف قرن بين 1945 و1995. وهو من أهم البحوث التحليلية التي اقتربت بدقة من تغيرات بنية الطبقة الوسطى وتحولاتها على مستويات مختلفة، راعى فيها التركيز على الأبعاد الفكرية العميقة. حاول أمين أن ينقل خلاصة تجاربه الفكرية من خلال مقاله الأسبوعي (الاثنين) بجريدة الأهرام، والذي كان حريصا على مداومته، ويعتبره نافذته الرئيسية على القراء، فقد كان مقلا في حواراته الإعلامية، وكان يحتفي بأي باحث أو مثقف لديه ما يقدمه بشكل جاد، واقتربت منه شريحة كبيرة من الشباب جذبتهم إليه أفكاره. يرى ليبراليون أن الرجل قدم تجربة واعية ونادرة في تسجيل تطور المجتمع بمصر في العصر الحديث، وحلل كيف انحدر المواطنون سلوكيا وتدهورت ثقافتهم. الشعبية الجارفة لكتابات جلال أمين مردها قدرته على الخروج من الإطار الأكاديمي الجاف وتقديم علم الاقتصاد بشكل ثقافي قال طارق توفيق رئيس غرفة التجارة الأميركية بالقاهرة لـ”العرب” إن كتابات أمين في الاقتصاد الاجتماعي بمثابة لوحة صادقة لتحولات المصريين خلال النصف الثاني من القرن العشرين. ورغم حصول جلال أمين على الماجيستير والدكتوراه من لندن، واقترانه بزوجة إنكليزية أجادت العربية بطلاقة، إلا أنه كان أحد المهتمين بنقد النظريات الغربية في التنمية والاقتصاد، ما عبر عنه في كتابيه “خرافة التقدم والتأخر”، و”كشف الأقنعة عن نظريات التنمية الاقتصادية”. كان الراحل يعتقد أن معظم النظريات الغربية المطروحة في مجال التنمية لا تخدم الدول النامية وإنما تحقق مصالح الدول المتقدمة وتساهم في ترسيخ استغلالها للشعوب، وتتخذ أحيانا من العوامل الثقافية مدخلا لفرض نوع خاص من الهيمنة الفكرية. ومثلت كتبه المشتبكة مع الطروحات الغربية للتعامل مع العالم العربي نقطة إنطلاق للردّ على ادعاءات تخلف وتوحش العرب والمسلمين، خاصة كتابيه “عولمة القهر”، و”عصر التشهير بالعرب والمسلمين”. وقدم جلال أمين مؤلفات أخرى هامة مثل “فسلفة الاقتصاد” و”العولمة” و”نكبة الكويت” و”شخصيات لها تاريخ” و”أحمد أمين”. شعبية جارفة تعرض الراحل إلى انتقادات متعددة بسبب مواقفه الفكرية واشتباكاته مع السلطة والتيارات المختلفة، وفي مقدمتها تيار الإسلام السياسي، الذي اعتبر صعوده في المنطقة العربية نتيجة تخلف المجتمع، وحرص بعض القوى العربية على توظيفه سياسيا. كتب جلال أمين في كتابه الأخير”المكتوب على الجبين” أنه قال لصديق أردني بعد اتفاقية الجلاء سنة 1954 أنه يعتقد أن حركة الضباط المصريين قد تكون من البداية مخططا أميركيا، غير أن صديقه رفض الفكرة وسخر منها. وقال إنه أقنع نفسه بعكسها عندما اتخذ الرئيس الراحل جمال عبدالناصر قرارات بدت مناقضة للأهداف الأميريكية، لكنه رأى قبل وفاته غير ذلك، موضحا أنه عندما استعرض الحقبة بأسرها مال إلى الاعتقاد بأنه عندما عبر عن شكوكه لصديقه الأردني لم يكن بعيدا عن الصواب. تجربة واعية ونادرة في تسجيل تطور المجتمع بمصر في العصر الحديثتجربة واعية ونادرة في تسجيل تطور المجتمع بمصر في العصر الحديث يقول البعض إن الشعبية الجارفة لكتابات جلال أمين جاءت بسبب قدرته على الخروج من الإطار الأكاديمي الجاف ونجاحه في تقديم علم الاقتصاد بشكل ثقافي سلس وجذاب، وسار على درب المفكر الاقتصادي المصري الراحل رمزي زكي (1941ـ2009) صاحب الكتاب الشهير “وداعا الطبقة الوسطى” إلا أنه تفوق عليه لغزارة ثقافته وعمق تجربته. أكد عماد الغزالي رئيس تحرير جريدة “القاهرة” الصادرة عن وزارة الثقافة المصرية أن الراحل استطاع أن يخرج بالفكر الاقتصادي من أطر النظريات والقوالب المعقدة إلى اللغة الجذابة البسيطة، لأن عينه كانت على القارئ. وأشار لـ”العرب” إلى أن تميز جلال أمين بانشغاله بالعالم العربي والعولمة وتبعياتها وكانت له اشتباكات علمية قائمة على المنطق، فضلا عن ذلك فإن تجربة سيرته الحياتية التي حملت عنوان “ماذا علمتني الحياة” تميزت بالصراحة الشديدة والتحرر من كافة القيود الاجتماعية والأسرية، حتى أنها اعتبرت ثاني أصدق سيرة ذاتية للمثقفين المصريين بعد كتاب “أوراق العمر” للمفكر الراحل لويس عوض. عاب البعض على الراحل صدقه في الحديث عن والده المفكر التنويري الشهير أحمد أمين، صاحب المؤلفات الإسلامية المتنوعة. واعتبروه مشوها لصورته لدى الناس عندما تحدث عن علاقته الجافة بزوجته، وذكر أن والده لم يكن مهتما بالصلاة. وأوضح الغزالي أن أمين لم يقدم نفسه في مذكراته باعتباره بطلا أو مثقفا كبيرا أو شخصا نموذجيا، وإنما عبر عن مشاعرالضعف الإنساني بجرأة وصدق يحسبان له. على المستوى السياسي حاز احترام الجميع من ليبراليين ويساريين، نظرا لعمق تجربته وتجردها وقدرته على تبسيط الفكر الاقتصادي الجاف. قال هاني سريالدين سكرتير عام حزب الوفد الليبرالي لـ”العرب”، إن أجيالا من الاقتصاديين تربت على كتاباته، لأنه كان منحازا إلى هموم المصريين وقادرا على التعبيرعنها بشكل صادق وصريح. وحكى يحيى حسين عبدالهادي، منسق الحركة الديمقراطية بالقاهرة لـ”العرب” أنه اقترب من المفكر الراحل خلال السنوات الأخيرة، واستمتع بالحوار معه مؤكدا أنه تمتع بخفة ظل لا مثيل لها وثقافة رحبة ووعي فكري بلا حدود، وكان يتحدث ببلاغة شديدة وكان قادرا على جذب جمهوره بنفس قدرة كتابته على جذب القراء، وجريئا في الحق، ومستقلا عن السلطة، ولا يقبل التباهي بمواقفه السياسية.
مشاركة :