عبدالحميد بوشناق يغرد خارج سرب السينما التونسية بفيلم رعب

  • 9/28/2018
  • 00:00
  • 14
  • 0
  • 0
news-picture

ربما يكون أكثر ما يثير التساؤل هو أن الفيلم التونسي “دشرة” (والكلمة تعني في اللهجة التونسية والمغاربية عموما القرية الصغيرة وأفضل تسميتها “القبيلة”)، تظهر على الشاشة في بدايته عبارة تقول إنه يستند على “قصص حقيقية”. كيف وهو أحد أفلام الرعب التي تدور في أجواء تتعلق بالسحر الأسود، والقرابين التي يتم تقديمها للشيطان، وقتل الأطفال وتصفية دمائهم والتهام لحومهم، بل وتصوير قبيلة كاملة يعيش أفرادها على أكل لحوم البشر؟ في ختام تظاهرة “أسبوع النقاد” بمهرجان فينيسيا السينمائي الـ75، عرض الفيلم التونسي الجديد “دشرة” وهو العمل الأول لمخرجه عبدالحميد بوشناق، وقد شكل الفيلم مفاجأة حقيقية لعشاق السينما ويمكن اعتباره أول فيلم عربي “حقيقي” من “أفلام الرعب”. يقول عبدالحميد بوشناق المخرج الجديد الواعد والموهوب الذي صنع هذه “التركيبة” المثيرة في فيلمه الأول إنه استمد ما يرويه في فيلمه، أو بالأحرى استلهمه، من بعض الحوادث المرعبة التي وقعت في تونس، يذكر منها ما وقع عام 2012 (أي بعد الثورة)، عندما قام رجل بقتل طفل في الرابعة من عمره وتصفية دمه في قارورة، وقد عاونته في ارتكاب جريمته هذه خالة الطفل، وكان الغرض تقديم قارورة الدم قربانا للجني الذي أخبر ساحر القرية بأنه يحرس كنزا وعدهم به شريطة تقديم قربان يتمثل في دم طفل بريء نقي من فصيلة الأطفال الذين يُطلق عليهم حسب المعتقدات الشعبية السائدة هناك، “الزهري” (أو أصحاب “الزهر” أي الحظ)، ويعتقد أنهم يتميزون عن غيرهم بوجود علامة سوداء في عيونهم، وبأكف يظهر فيها خط العمر عرضيا مستقيما. وقد استخدم عبدالحميد هذه التفاصيل في فيلمه، بل وصوّر أيضا “الشيطان” أو “الجني” على هيئة رجل أشعث الشعر، جاحظ العينين، مخيف السحنة، شره لالتهام الدم من جثة طفل يقتله السحرة في طقوس ليلية غريبة. بداية المغامرة يبدأ الفيلم بمشهد داخل معهد لتدريب الصحافيين الشباب. المحاضر يطلب من طلابه البحث عن قصة تتميز بالجدة والخلق والإبداع، مؤكدا على ضرورة الابتعاد عن القصص التي تدور حول الثورة التونسية، مشيرا إلى أنه في العام السابق تلقى من طلابه أكثر من عشرين موضوعا عن”الثورة”. هذا التأكيد الأوّلي يعبر عن فكر المخرج بوشناق نفسه الذي أراد الابتعاد عن المسار الذي ساد الأفلام التونسية خلال السنوات السبع الأخيرة، ويركز الفيلم بعد ذلك على مجموعة من ثلاثة طلاب شباب هم أولا الصحافية ياسمين وزميلها المصوّر بلال، ومسجل الصوت وليد. ويتكون الفيلم من ثلاثة أقسام: القسم الأول يدور حول قصة امرأة اسمها منجية قيل إنه عثر عليها قبل 20 عاما مقطعة الأيدي والأرجل، مذبوحة الرقبة، قام الأطباء بتوصيل أجزاء جسمها ثم أودعوها مصحة للمرضى العقليين ولم تبدُ عليها قط خلال تلك السنين معالم التقدم في العمر، وقد اعتبرها الناس ساحرة، وظلت قصتها تنتشر، كما أضيف إليها الكثير من التفاصيل الخرافية. هذه القصة تشد ياسمين كثيرا، خاصة ونحن نراها منذ البداية ترى الكثير من الأشباح والرؤى الخيالية في منامها، وتتخيل أشياء لا وجود لها في الواقع، فهي تقيم مع جدها العجوز بشير الذي تولى رعايتها بعد وفاة والديها، والجد رجل متدين، يعمل في تغسيل ودفن الموتى، لكننا نعرف أيضا أنه يخفي عنها سرا يتعلق تحديدا بأمها. أما القسم الثاني من الفيلم فيدور في الغابة، بينما يدور القسم الثالث في “القرية” النائية “الدشرة” وسط “القبيلة”، أي أننا ننتقل من المدينة في الزمن المعاصر، إلى المنطقة الوسيطة بين عالمين (الغابة الغامضة التي تخفي أسرارها بين الأشجار)، لننتقل في القسم الثالث إلى ما يشبه عصور الظلام، داخل أجواء السحر والشعوذة والخرافة، لكن مع وجود الكاميرا الرقمية والهاتف المحمول والسيارة، أي لا يغيب عنا قط أننا ما زلنا في قلب العصر الحالي. أجواء دينية في الفيلم أجواء دينية تضفي خصوصية على الصورة، منها آيات القرآن التي تتردد كثيرا سواء في الخلفية على شريط الصوت أو من خلال شخصية الجد الذي يستعين بالقرآن دائما وهو يعمل لطرد الشيطان، ونرى مشهدا لتغسيل جثة شاب ميت ولفها في الكفن حسب التقاليد الإسلامية ثم دفنها في القبر، كما لو كان المقصود التوقف أمام الموت الذي ينتهي في قبر مظلم يحوي أيضا أسراره التي لا نعرفها. المخرج عبدالحميد بوشناق يؤكد أنه استلهم ما يرويه في فيلمه من بعض الحوادث المرعبة التي وقعت في تونسالمخرج عبدالحميد بوشناق يؤكد أنه استلهم ما يرويه في فيلمه من بعض الحوادث المرعبة التي وقعت في تونس ورغم مساره القصصي الواضح يمتلئ الفيلم بالكثير من التداعيات البصرية، التي تقطع السرد بين المشاهد المختلفة دون أن تعيق تدفقه، وتحيل إلى الماضي أو إلى الرؤى الغريبة التي تشاهدها ياسمين، ومنها ما لا يمكننا أن نعرف عنه ما إذا كان يدور في الحقيقة أم في الخيال، مثل المشهد الذي يقوم فيه الجد بتنظيف طاولة غسل الجثث بالماء، وكلما يفرغ من تنظيفها تماما سرعان ما يغمرها الدم الذي يسيل من فوق سطحها ليغرق الأرض. تتوجه ياسمين بصحبة وليد وبلال إلى المستشفى لتصوير منجية، ولكن مدير المستشفى ينكر تماما وجودها، ولكن بعد رشوة الحراس والممرضين يتمكن الثلاثة من الوصول إلى ما يشبه زنزانة يخفون فيها تلك المرأة التي لا تتكلم وتجلس منكمشة على نفسها، لكن الأمور لا تسير كما كان مخططا لها، بل تتعرض ياسمين لاعتداء من منجية التي تعض يدها فلا بد أن تكون قد فقدت عقلها بفعل ما تعرضت له عبر السنين. في الجزء الثاني يذهب الثلاثة للبحث عن المكان الذي كان قد عثر فيه في الماضي على منجية بناء على اقتراح من وليد، الذي سنعرف قرب النهاية أنه يخفي أيضا سرا كبيرا ومفاجأة. وفي الطريق تتعطل سيارتهم، وتتوقف سيارة بالقرب منهم يهبط منها رجل غريب السحنة، دائم الابتسامة، هو صابر الذي يعرض مساعدته عليهم، هذا الشخص نفسه سيرونه بعد قليل داخل الغابة، يستلم جثة رجل من شخص يدفع له مبلغا من المال، ثم يحمل الجثة ويضعها في سيارته، وسيتضح أيضا أنه زعيم القبيلة من آكلي لحوم البشر التي سيصلون إليها في القسم الثالث من الفيلم، لكنهم سيدخلون أولا إلى الغابة، حيث يشاهدون طفلة غريبة الأطوار في نحو السابعة من عمرها، تلتهم حمامة حية ويسيل الدم من فمها، تحاول ياسمين التحدث إليها لكنها تهرب. في القسم الثالث يجدون أنفسهم أمام مجموعة من النساء، لا يتكلمن أبدا، بل يتحركن في صمت ويتطلعن إلى القادمين الغرباء في توجس، ويظهر رجلان يحملان بعض الأجولة، وتنتشر مجموعة كبيرة من الأحشاء واللحوم والأطراف المقطعة التي نثروها فوق الحبال أو وضعت في القدور التي تغلي بالماء. هنا سيظهر الرجل الغريب (صابر) يعرض استضافتهم ثم يصر على أن يتناول الجميع الغداء (المكون من اللحم) مع أفراد القبيلة، ثم قضاء الليلة إلى حين إصلاح سيارتهم. لا يتناول أحد منهم باستثناء وليد، الطعام، يرغب بلال في العودة، لكن بلال يقاوم هذه الرغبة ويسخر منه، وتشعر ياسمين بالرعب والتوجس، لكن السيارة لا يتم إصلاحها، بل يدعي صابر أن الأولاد سرقوا إطاراتها وبالتالي يصبح أفراد المجموعة سجناء لدى القبيلة. هناك مشاهد كثيرة لإعداد الطعام من جثث الموتى والحيوانات، ودماء تتناثر على الأرض، ورجال يحملون أجولة، واضح أن في داخلها جثثا، وصابر يروح ويجيء بسيارته يحمل أشياء غامضة، والطفلة الشريرة آكلة الطيور الحية تظهر فجأة وتختفي فجأة، وفتاة شابة حامل تهمس في أذن ياسمين عندما تقترب منها وتحاول إدارة حوار معها، تطلب منها مغادرة هذا المكان على الفور. لكن وليد يقلل دائما من خطورة الموقف ويصر على المبيت، وفي هذه الليلة تقع الكثير من الأحداث، وتنبث الرؤية المخيفة في ذهن ياسمين، ويدخر لنا الفيلم أكثر من مفاجأة، ويبتكر المخرج بعض مشاهد الرعب. تأثير أميركي لا شك أن هناك تأثرا واضحا لدى المخرج بأفلام أميركية شهيرة من نفس النوع، أشهرها وأقربها إلى سياق فيلمه “ساحرة بلير” و”مذبحة منشار تكساس”، لكن ميزة “دشرة” أن مخرجه الذي درس الإخراج في تونس وكندا، يمتلك القدرة على صنع عمل يستلهم فيه أيضا الكثير من الملامح الكامنة في البيئة التونسية، ويصبغه بصبغة خاصة أسلوبية سواء من حيث البراعة في تصوير أجواء العيش في الغابات والجبال في القرى النائية، أو الملامح الخاصة للنسوة والأطفال بل والرجال أيضا، والمزج بين العنصرين: الديني والوثني، في مزيج مخيف من قصص الأشباح والأرواح الشريرة والساحرات وقبائل آكلي لحوم البشر وعبدة الشيطان. الفيلم يمتلئ بالكثير من التداعيات البصرية التي تقطع السرد بين المشاهد المختلفة دون أن تعيق تدفقه وعبدالحميد بوشناق مهموم بفكرة البحث عن الجوانب الغامضة الشريرة داخل النفس البشرية، وعن العلاقة بين الأحياء والأموات، والخوف التقليدي لدى الإنسان من الموتى وممّا يوجد داخل الأرض (القبور القديمة)، ولكن من المثير للانتباه أنه يجعل البعد الديني هنا يعجز عن إنقاذ الإنسان من مأزق المواجهة مع الشيطان. إنه يبحث في هشاشة الصورة السطحية للواقع التي تخفي تحت قشرتها الكثير من الجوانب الخافية، مع مناقضة الصورة التقليدية للطفولة وتصوير ما يمكن أن تخفيه البراءة الظاهرية عند الأطفال من خلال نموذج الطفلة الشريرة ذات العينين الواسعتين اللتين تجعلانها تبدو نموذجا ملائكيا في حين أنها هي التي تحمل الطفل الذي وضعته المرأة الشابة في طقوس ليلية غامضة مثيرة، وتهرع لكي تقدمه قربانا إلى الشيطان أو الجني، الذي يمتص دمه ثم يلتهم لحمه في مشهد من أكثر المشاهد الصادمة في الفيلم. ملاحظات يعاني القسم الأول من الفيلم من بعض الاستطرادات والإطالة وتكرار المشادات والمشاكسات بين وليد وبلال، وتبادل ألفاظ السباب وكثرة الصياح من جانب ياسمين، لكنه يعتدل في القسم الثاني منه، ثم يصل إلى ذروة النضج والاستخدام التعبيري للصورة في القسم الثالث خاصة في المشاهد الليلية. ويميل المخرج ومصوّره إلى استخدام اللقطات القريبة للوجوه بحيث يقدم الكثير من “البورتريهات” المثيرة لوجوه نساء القبيلة ورؤوس الماعز التي تتطلع في صمت كما لو كانت شاهدة على ما يجري، مع استخدام الزوايا الغريبة واللقطات المنقوصة من أحد جوانب الصورة، مع تكرار الانتقال بين الألوان والأبيض والأسود، لكي يجسد الأجواء الغريبة التي تدور فيها الأحداث. ولا بد من القول أنه كلما بدا أن الفيلم قد توقف أو عجز عن تطوير الفكرة مع هبوط الإيقاع، سرعان ما يقبض بوشناق على مسار فيلمه مجددا، ويستعيد حيوية التدفق ليجعل المشاهد يعود إلى متابعة ما يحدث على الشاشة، خاصة مع توالي المفاجآت في القسم الأخير من الفيلم. قام عبدالحميد بوشناق وهو نجل المطرب المشهور لطفي بوشناق، بكتابة السيناريو والإخراج والمونتاج كما أنتج الفيلم بنفسه، وهو ما يعكس حجم المهام الثقيلة التي حملها على عاتقه، وقد يبدو فيلم “دشرة” في بعض أجزائه، تجميعا لما علق في ذاكرته من حكايات عن الجن والشياطين والخرافات وكذلك تأثره بالمشاهد الخيالية التي تمتلئ بها أفلام شهيرة ظلت في ذاكرة عشاق سينما الرعب، ورغم ذلك يمكن القول إن التجربة أظهرت موهبته كمخرج وتمتعه بالقدرة على استدعاء ما هو عالق في ذهنه من حكايات تونسية شعبية سمعها في طفولته، هذه التجربة وضعت قدمي صاحبها على الطريق، وجعلتنا ننتظر منه الكثير في أفلامه القادمة. "دشرة" يزاوج بين الديني والوثني، في مزيج مخيف من قصص الأشباح وقبائل آكلي لحوم البشر وعبدة الشيطان

مشاركة :