عشر سنوات مرّت على رحيل الشاعر الفلسطيني محمود درويش (1942 ـ 2008)، وسواء بكلمته الشعرية أو بمسيرته النضالية، ما يزال هذا العملاق يشكّل مصدر إلهامٍ شرقاً وغرباً، ليس فقط للشعراء، بل للفنانين على اختلاف اختصاصاتهم ووسائطهم التعبيرية. ولعل أحدث دليل على ذلك المهرجان الذي نظّمه «معهد العالم العربي» (باريس) مؤخراً تحت عنوان «منافي محمود درويش»، وتراوحت فعاليات برنامجه بين عروض سينمائية ومسرحية وموسيقية، وقراءات شعرية وتجهيزات تشكيلية وندوات. فعاليات حضرها جمهورٌ غفير، وشكّلت بقيمتها وطبيعتها خير احتفاءٍ بمنجزات مبدعٍ لن يتمكن الزمن من النيل منه. في فيلمها الوثائقي «محمود درويش ولغة الأرض» (59 دقيقة)، سعت المخرجة الفرنسية ـ المغربية سيمون بيتون إلى إظهار شعبية درويش الهائلة في عالمنا العربي، حيث الشعر فنّ حيّ لا يتطلّب من كاتبه أن يخطّه على ورقة فحسب، بل أن يكون أيضاً قادراً على تجسيده أمام الآخرين. وفي هذا السياق، تستحضر السينمائية مقاطع من الحفلات الشعرية التي أحياها الشاعر في القاهرة ودمشق وبيروت والجزائر العاصمة، لكن أيضاً في باريس ولندن، وحضرتها جماهير غفيرة لم تأتٍ للإصغاء إليه فقط، بل لمرافقته أيضاً في إلقاء أبياته. وقبل عرض الفيلم، الذي شارك في إنجازه أصدقاء درويش: الياس صنبر، ومارسيل خليفة، إلى جانب باقة من التقنيين الأجانب، قدّمت بيتون لنا فيلماً وثائقياً قصيراً (13 دقيقة) يُعرَض للمرة الأولى، واستقت مادّته من أرشيف الشاعر لعام 1989، وتحديداً من «خطاب توليدو» (عنوان العمل). وشهد المهرجان ندوةً ضمن برنامج «أيام خميس المعهد» الأسبوعي، أدارها صديق درويش وناشر أعماله بالفرنسية، المؤرّخ السوري فاروق مردم بك، وشارك فيها الشاعر العراقي كاظم جهاد، والباحثة الفرنسية إيفانغيليا ستيد، ومنسّقة أعمال «كرسي محمود درويش الثقافي والجامعي» في بروكسل بريجيت هيرمانس، والشاعر والناقد الفرنسي جان باتيست بارا، والكاتب والباحث الجامعي المغربي مراد يلّس. وتطّرق المشاركون في الندوة إلى مواضيع عديدة، أبرزها: عملية تطوّر درويش في كتابته الشعرية من البيت الشعري المصفّى إلى النشيد المعقّد، وحضور الضياع والمنفى في شعره ضمن نَفَسٍ تراجيدي أكثر منه «هوميري» (من هوميروس)، ومسألة تفكيكه الميثات وإظهاره انتهاء زمن الأساطير أمام التاريخ والحقيقة العارية للحياة، واقترانه في دواوينه الأخيرة بحركة تيهٍ كبرى، وتشييده ملحمة قاطني الهامش والظل، من دون نسيان ذلك الحافز الأصيل والكريم لديه الذي دفع به نحو الغريب والإنسان العابر والمترحِّل أبداً. نقاشٌ مهم تخللته أداءات موسيقية للفرنسي إيريك أوغست برفقة عازفَيّ القيثارة ياسين قروي وإيريك سوفيا وعازف قيثارة الباس يوسف بوقلّة، وقراءات لبعض قصائد درويش، نذكر منها: «عابرون في كلامٍ عابر» و«على هذه الأرض ما يستحقّ الحياة» و«عندما يذهب الشهداء إلى النوم» و«نحن نحبّ الحياة». كما أقيمت حفلتان فنّيتان: الأولى موسيقية، أحيتها المغنية اللبنانية ياسمين حمدان، وأنشدت خلالها أغنيات من ألبومَيها الأخيرين «الجميلات» (2017) و»الجميلات ـ ريميكس» (2018) اللذين يحملان عنوان القصيدة التي تغنّى درويش فيها بالمرأة، وتُسائل حمدان فيهما وضع عالمنا العربي والتحوّلات التي يشهدها في المرحلة الراهنة. ولمَن يجهل هذه المغنية، نشير إلى أنها واحدة من الفنانين العرب الأوائل الذين تملّكوا قوانين موسيقى الـ «إيندي». وسواء في فرقة «سوبكيل» أو في أداءاتها المنفردة، عرفت كيف تمزج الإرث الشرقي بالموسيقى الإلكترونية، وأسلوب الـ «فولك» بأسلوب الـ «بوب». وحين نعرف أيضاً أنها اختبرت العيش في ست دول، وانغمست داخل ثقافات متنوّعة، لا يفاجئنا شكل السفر الذي اتخذته عملية تأليف ألبومَيها الأخيرين؛ سفر جمعت حمدان خلاله أصوات وأفكار مختلف البلدان التي طافت فيها، الأمر الذي ساهم بالتأكيد في إثراء موسيقاها ومدّ نصوصها ببُعد اجتماعي ـ سياسي. الحفلة الثانية هي عبارة عن أداء مسرحي وموسيقي معاً، يحمل عنوان «من حجر وزعتر»، وقدّمته فرقة «حبوب للطحن» الفرنسية التي تضم سعيد الأحمر (تمثيل) وبونوا بولان (موسيقى) وجوليان روبو (بثّ سمعي وإضاءة) وأوليفيي غاروست (فيديو) وسيمون دوني (ابتكار في الإنارة والفيديو). فنانون جمعوا مواهبهم لمنح قصيدة درويش «أحمد الزعتر» كل قيمتها عبر إسماعنا جمال لغتها وإيقاعات نصّها بصوت الأحمر الجهوري، الذي يتم أحياناً التلاعب به مباشرةً، لكنه لا يشكّل سوى عنصر داخل تدوينة موسيقية، تتألف من أصوات إلكترونية مختلفة ومتحوِّلة. ترسم مشهداً سمعياً طويلاً يعزّز وقعه تلاعُب حاذق ومدهش بالإنارة والصور المُسقَطة. أداء يشكّل خير صدى لمعرض ضياء العزاوي، «صبرا وشاتيلا» الذي يستضيفه حالياً معهد العالم العربي. وإلى جانب اللقاء الممتع مع الياس صنبر حول أعمال درويش، الذي أدارته الروائية والصحفية الفرنسية ـ الألمانية أوريان غالينياني، وتخلله قراءات لبعض قصائد الشاعر بصوتَيّ الممثلة الفرنسية دومينيك بلان والممثّل اللبناني ريمون حسني، كانت عروض أدائية لفيرونيك كاي وكاميل دوران توفار وبيار مينيار ورافائيل دي باولا وفاني سينتس، تبعها عملان إبداعيان لتجمّع «الباب 27»: الأول أداء فني بعنوان «بعد السماء الأخيرة، خيط وقصيدة»، حاول فيه الثنائي ماريون كولّيه وآرثر سيدوروف، القادمان من عالم السيرك، ترجمة نصوص الشاعر بحركات بهلوانية مذهلة على خيطٍ مشدود في الهواء. أما العمل الآخر فأداء شعري ـ موسيقي للشاب المغربي ـ الفرنسي وليد بن سليم الذي يستعين بصوته القوي وثقافة الـ «هيب هوب» والموسيقى الإلكترونية اللتين يعرفهما جيداً لمساءلة الإرث الشعري العربي وتملّك بعض نصوص درويش برفقة غازفة القيثار (harpe) ماري مارغريت كانو. وفي ليلة المهرجان الأخيرة، كان لنا موعد مع مسرحيتين: الأولى بعنوان «جسدك، أرضي»، وقد أخرجتها الروسية تاتيانا سبيفاكوفا، وأدّى أدوارها صموئيل شورين ومالي ديالو وكريستيل سايز، على خلفية عزف ياسر رامي على العود، بينما وضعت دراماتورجيتها تمارة سعدي. عملٌ يشكّل جدارية مسرحية وموسيقية وشعرية تروي انفصالاً بين حبيبين حصل بالإكراه، ويظلل أحداثها صاحب «رسالة من المنفى». رجلٌ يسير على طرف الحياة وننزلق تدريجياً تحت جلده من خلال عدد كبير من قصائد درويش التي يستحضرها، مثل «البيت قتيلاً»، «البعوضة»، «سنخرج»، و»سرحان يشرب القهوة في الكفاتيريا». المسرحية الثانية التي تحمل عنوان «رائحة الوطن البعيد» من إخراج الفرنسية آن لور لييجوا وتمثيل مواطنها أوليفييه دوتيلّو. وعلى خلفية موسيقاها الآسرة التي ألّفها الفنان «غيم»، تنقلنا أحداثها إلى بيروت عند الفجر، حيث تنهمر القذائف بلا انقطاع ملوّثةً برائحة البارود مطبخاً مفتوحاً يحلم درويش فيه بعطر القهوة ونكهتها. وكما في العمل السابق، توقّع هذه المسرحية قصائدٌ عديدة من مجموعات درويش التالية: «ذاكرة النسيان»، «سنختار سوفوكليس»، «كزهر اللوز أو أبعد» و»أثر الفراشة». ولا تكتمل صورة المهرجان من دون الإشارة إلى الأداءات الشعرية الغزيرة التي اجتاحت جميع فضاءات «معهد العالم العربي» في اليومين الأخيرين منه، واضطلع بها فريقٌ من الفنانين الشبّان تحت إشراف آن لور لييجوا. كما لا ننسى التجهيز الذي ابتكرته المخرجة وفنانة الفيديو الفرنسية فيرونيك كاي تحت عنوان «الصورة الحقيقية»، وكان حاضراً طيلة فترة المهرجان.
مشاركة :