يبدو محمود درويش لمن يراجع أعماله الشعرية والنثرية ممزقاً بين نزعتين اثنتين: فهو حيناً فلسطيني مُغال في فلسطينيته لا يعترف لليهود (أو للإسرائيليين) بأي حق تاريخي أو سياسي في فلسطين، وهو حيناً آخر قابل بالتسوية معهم على أساس الدولتين. وقد تعايشت هاتان النزعتان المتصادمتان في ذاته منذ صباه في فلسطين ومنذ ظهور أعماله الشعرية الأولى فيها ومنها «أوراق الزيتون»، و«عاشق من فلسطين». ففي تلك المرحلة المبكرة من حياته، وهو يعيش وسط بحر يهودي كتب قصيدته «سجّل أنا عربي» التي أعلن فيها انحيازه إلى فلسطين عربية واضحة العروبة. وقد ظل الجمهور يطالبه في الأمسيات الشعرية التي كان يعقدها في كل مكان بأن يلقيها رغم مرور أكثر من ثلث قرن على نظمها. ومع الوقت كتب الشاعر ما لا يحصى من النصوص الشعرية والنثرية التي تؤكد انحيازه التام إلى فلسطين التي لا تختلف صورتها عنده عن صورتها لدى سكان المخيمات الفلسطينية في الشتات أو في غير الشتات، ولدى كل عربي يؤمن بعروبة فلسطين وبكونها خضعت في العصر الحديث لعملية اغتصاب مهما مر الزمن عليها فإنها بلا ريب زائلة وهذا ما يقوله التاريخ وما تقر به القوانين والشرائع والحقوق. وقد اشتهرت كلمات كثيرة للشاعر تؤكد فلسطينيته الصلبة وعدم اعترافه لليهود بأي حق في فلسطين، وأشهره في أدبياتهم ما يسمونه بحائط المبكى وما نسميه نحن بحائط البراق. فحتى هذا الحائط قال محمود في نص مشهور له في «الجدارية» إنه «له»، أي للفلسطيني لا لليهودي، وفي نص مشهور آخر اعتبر أن اليهود، جملة وتفصيلاً «عابرون في كلام عابر» فمهما طالت غزوتهم الحديثة لفلسطين، فإنهم لا شك عابرون وزائلون وفي كل ذلك كان يعبر عن ضمير شعبه الفلسطيني وعن الضمير العربي والإنساني في آن ومن أجل ذلك استحق وعن جدارة حمل لقب شاعر فلسطين الأول، أو شاعر فلسطين الأكبر. ولكن محمود درويش لا يثبت عند مثل هذا الفهم لفلسطين أو لنقل إنه ليس صارماً أو حدياً أو نهائياً في هذا الموقف. إذ يبدو لمن يقرأ شعره، وبخاصة في السنوات التي سبقت رحيله، قبوله بتسوية ما في فلسطين بحيث تتعايش فيها دولتان وشعبان: دولة إسرائيل وشعبها اليهودي، ودولة فلسطينية إلى جوارها مؤلفة من الضفة الغربية وقطاع غزة. فهو لهذه الجهة أقرب إلى «فتح» منه إلى «حماس». وهنا ما يمكن استنتاجه من نص شعري كتبه في مدينة رام الله في يناير 2002م وصدر في ديوان يحمل عنوان «حالة حصار» صدر عن دار رياض الريس في بيروت في السنة نفسها. في هذا الديوان يبدو الشاعر متهللاً لولادة الدولة الفلسطينية: «بلاد على أهبة الفجر» التي كان الكثيرون في تلك الفترة يتوقعون قيامها، ولكن اليهود عرقلوا ذلك وفرضوا حصاراً محكماً على الضفة الغربية أجهض كل أحلام الحالمين ومنهم الشاعر نفسه. كان محمود درويش يومها مقيماً في رام الله وخضع لكل الإجراءات والتدابير التي فرضها المحاصرون أو المحتلون. و«حالة حصار» تؤلف وثيقة ثمينة لمن يريد أن يسبر مطاوي النفس عند الشاعر، ورؤيته لهذا المحتل لأرضه، ورؤيته على الخصوص لمستقبل التعايش فوق تلك الأرض بين العربي والعبري. أول ما يلفت النظر في هذا النص الشعري تعايش النزعتين اللتين أشرنا إليهما آنفاً في ذات الشاعر. فهو ينعت في السطور الأولى منه، اليهود «بالأعداء»: بلاد على أهبة الفجر صرنا أقل ذكاءً لأنا نحملق في ساعة النصر لا ليل في ليلنا المتلألئ بالمدفعية أعداؤنا يسهرون وأعداؤنا يشعلون لنا النور في حلكة الأقبية. ولكنه في صفحات لاحقة يحاور هذا المحتل يؤنبه، يوبخه على سوء ما يصنع بضحيته، أي بالفلسطيني. فتحت عنوان «إلى قاتل» يرد: لو تأملتَ وجه الضحية وفكرت، كنت تذكرت أمك في غرفة الغاز، كنتَ تحررت من حكمة البندقية وغيّرت رأيك: ما هكذا تستعاد الهوية! وفي الصفحة التي تلي هذه الأدبيات أو الكلمات، ترد أبيات أو كلمات أخرى للشاعر، فيها نفس التأنيب أو التوبيخ أو العتاب على ما يفعله هذا القاتل أو الآخر. العنوان هو «إلى قاتل آخر»، وفيه: لو تركتَ الجنين ثلاثين يوماً، إذاً لتغيرت الاحتمالات: قد ينتهي الاحتلال ولا يتذكر ذاك الرضيع زمان الحصار، فيكبر طفلاً مُعافى، ويصبح شاباً ويدرس في معهد واحد مع إحدى بناتك تاريخ آسيا القديم وقد يقعان معا في شباك الغرام وقد ينجبان ابنة (وتكون يهودية بالولادة) ماذا فعلتَ إذاً؟ صارت ابنتك الآن أرملة والحفيدة صارت يتيمة فماذا فعلتَ بأسرتك الشاردة وكيف أصبتَ ثلاث حمائم بالطلقة الواحدة؟ في هذين النصين، وفي نصوص أخرى في الديوان، يبدو الشاعر «تسووياً» إن جاز التعبير، أي قابلاً بتسوية بينه وبين عدوه: فكل ما يطلبه من هذا العدو هو أن يرفع حصاره عن أرضه، أي عن الضفة الغربية، وأن ينصفه، أي أن يعترف بحقه في هذه الضفة وأن يتعايش معه في نوع من المساكنة الودية من مظاهرها أن يدرس أولاد هذا العدو (وهو في الواقع أو المؤدى شيء آخر) مع أولاد الفلسطينيين العرب المسلمين. في هذا المعهد الذي يختلط فيه أولاد اليهود والعرب، يمكن بالطبع أن تنشأ علاقات عاطفية فيتزوج اليهودي من عربية أو العربي من يهودية. محمود درويش يوبخ القاتل على فعلته المنكرة في إطار مخاطبة تختلف عن المخاطبة الصارمة التي تعتبره مجرد مغتصب مستوجب للاستئصال، أو مجرد عابر في كلام عابر.. وليس مجرد قاتل مهووس ينبغي إخضاعه للعلاج في مشفى أو إصلاحية للمنحرفين. في «حالة حصار» تمثل دويلة الضفة الغربية عند الشاعر حلماً أو أملاً أو وعداً: «بلاد على أهبة الفجر» في حين كان ينبغي النظر إليها على أنها مجرد خطوة على طريق استرداد فلسطين من مغتصبيها، ففلسطين كلها، فلسطين التاريخية ومن ضمنها الدولة العبرية القائمة فيها الآن باسم إسرائيل، هي وطن الفلسطينيين، وليس الضفة الغربية أو أربعين أو خمسين منها لا أكثر. أخذ الكثيرون على محمود درويش، ومنهم فلسطينيون، موقفه التسووي هذا وحاروا في تكييفه. قال بعض هؤلاء إنه إذا جاز للسياسي الفلسطيني، سواء كان اسمه أبوعمار أو أبومازن، أو أي اسم أو لقب آخر، أن يقبل بتسوية مع الإسرائيليين، تتضمن التنازل عن قسم من فلسطين، ولا تتيح للفلسطينيين سوى حصة متواضعة، فإنه لا يجوز لشاعر فلسطين الأول أو الأكبر، أن يقبل بمثل هذه التسوية. الشاعر ينطق عادة باسم الضمير أو الوطن أو الأمة، ولا يرضخ ولا يتنازل ولا يتساهل ولا يساير ولا يقبل بحلول لا تأتلف مع القيم والمبادئ العليا لشعبه. فكيف جنح هذا الشاعر إلى مثل هذه الوقفة المدانة وطنياً وأخلاقياً؟ وقال بعض آخر إن الشاعر كان «يؤنسن» العدو، وإنه إنما كان يخاطب الرأي العام في الخارج، ويريد أن يظهر قبح اليهودي وما يفعله بشعبه. كما إنه أراد أن يُظهر إنسانية الفلسطيني الجريح والذبيح بالآلة العسكرية المسعورة للإسرائيلي الذي كان يوماً ضحية الآلة العسكرية النازية وأفرانها؛ فالشاعر إذن لم يكن يفرط، وإنما كان يصدر في هذه الوقفة عن وعي وبصيرة. ولم يستبعد آخرون العنصر الذاتي في المسألة وهو يتمثل في نشأة محمود درويش في إسرائيل وحياته فيها فترة طويلة قبل انتقاله إلى البلاد العربية، وكذلك - وهذا عنصر في غاية الأهمية - انتسابه في صباه إلى حركة «راكاح» الإسرائيلية التي كانت تضم في صفوفها عرباً ويهوداً وتدعو إلى مواطنية واحدة لجميع سكان إسرائيل من عرب ويهود. وكانت راكاح، بالاضافة إلى ذلك، حركة شيوعية أو يسارية تتناغم مع الشيوعية العالمية التي دعت في تلك الفترة إلى تقسيم فلسطين وقيام دولتين: واحدة لليهود، وأخرى للفلسطينيين. ولا شك أن محمود درويش تأثر بما كانت تدعو له راكاح وقبل به. وقد ظل الشاعر إلى آخر حياته يعتبر راكاح حزبه. ففي آخر زيارة قام بها إلى حيفا قبل وفاته ذكر علناً عندما سئل عن راكاح أنها «حزبه». والواقع أنه ظل زمناً بعد مغادرته إسرائيل إلى البلاد العربية يردد فيما يكتب، وما يصرح به إلى الصحافة العربية، ما معناه أن الحل ينبغي أن يكون إنسانياً، أي أن يكون في فلسطين المستقبل دولتان: دولة للعرب، وأخرى لليهود. وكان يحمل يومها على النزعات «الفاشية» والرجعية القائمة هنا وهناك في العالم العربي، منسجماً في ذلك مع الأدبيات «الراكاحية» التي كانت سائدة يومها عند رفاقه في الحركة ومنهم إميل حبيبي، وسميح القاسم. كان إميل حبيبي راكاحياً محضاً يعتبر أن قومية جديدة نشأت في الخمسين سنة الأخيرة في فلسطين هي القومية الإسرائيلية. أما سميح القاسم فقد اعتبر على الدوام أن أي تفكير في استئصال اليهود من فلسطين في يوم من الأيام يتناقض مع القيم العليا للحضارة العربية الإسلامية، ونموذجها ما حصل في الأندلس من تعايش بين العرب واليهود والنصارى. إلى مثل هذه الأسباب يمكن ردّ النزعة «التساهلية» عند محمود درويش تجاه اليهود أو تجاه الإسرائيليين. وهي نزعة أخذها عليه كثيرون اعتبروا ان منشأها مدينة حيفا، أو إسرائيل، التي عاش الشاعر فيها حوالي ثلاثين عاماً، خلالها عايش اليهود، وأحب فتاة يهودية، وانتسب إلى حركة شيوعية يهودية تضم عرباً ويهوداً معاً. ومع أن الشاعر عاش بقية حياته في البلاد العربية: في مصر وفي لبنان وفي الأردن والضفة الغربية حيث فلسطين في الضمير العام عربية كالشمس، وحيث الكفاح المسلح والإيمان الذي لا يتزعزع بوجوب تحريرها يوماً ما تحريراً كاملاً من مغتصبيها إلاّ أن الشاعر لم يبرأ، على النحو الذي رأينا، من نزعته «الراكاحية» هذه فأصر حتى النهاية على وقفة أو تسوية محورها مطالبة الإسرائيلي «بإنصاف» الفلسطيني والتعايش معه في دويلة تضم قسماً من الضفة الغربية زائداً غزة..
مشاركة :