في كلِّ مرة أقرأ فيها روايات الروائي الكولومبي جابرييل جارسيا ماركيز دائمًا كان يباغتني هذا السؤال: ما كم الصبر الذي يصدر عن هذا الروائي حتى تشكل لديه ذلك السرد البطيء جدًا لتفاصيل من الحياة اليومية الاعتيادية أحيانًا، ومع ذلك يأتي سرده مغلفًا بغموض من الواقعية السحرية التي اشتهر بها أدب أمريكا اللاتينية الروائي. وكنتُ أتذكر محاضرات أستاذي الناقد العربي المعروف البروفيسور صلاح فضل عندما كان يدرسنا مقرر «النقد الأدبي الحديث»، وأنا في السنة الرابعة من البكالوريوس، كان يقول لنا عندما كنتُ أعمل ملحقًا ثقافيًا في السفارة المصرية بالمكسيك حدث أن وُجِهَتْ لي دعوة، وذهبتُ في الموعد المحدَّد ولم يحضر أحد، حضروا بعد ثلاث ساعات ومن دون تقيد بالزمن الفيزيائي الذي كان يقول إنَّ ساعات ثلاث قد انقضت عن الموعد!!! كان يقول لنا وهو يضحك: هؤلاء المكسيكيون لهم زمنهم الخاص الذي لايشبه أحدًا سواهم! وأذكر كذلك أنَّ فنانًا عربيًا مثقفًا وذا شهرة عريضة عندما سألوه عن قراءاته وعن الرواية قال: «قرأتُ رواية» مائة عام من العزلة «لماركيز ولم أستطع إنهاءها لأن إيقاعها بطيء جدًا، وأنا إنسان إيقاعي سريع جدًا لا أستطيع تخصيص أيام طويلة للانتهاء من رواية واحدة فقط!». كتب الروائي الفرنسي من أصل تشيكي ميلان كونديرا في مفتتح روايته «البطء»: «لم اختفت لذة البطء؟ آه، أين هم متسكعو الزمن الغابر؟ أين أبطال الأغاني الشعبية الكسالى، أولئك المتسكعون الذين يجرون أقدامهم بتثاقل من طاحونة إلى أخرى، وينامون في العراء؟ هل اختفوا باختفاء الدروب الريفية والواحات وفجاج الغابات، وباختفاء الطبيعة؟ ثمّة مثل تشيكي يحدد خمولهم الوديع بالاستعارة الآتية: إنهم يتأملون نوافذ الإله. ومن يتأمل نوافذ الإله لايسأم، بل يكون دومًا سعيدًا. لقد تحوَّل الخمول، في عالمنا، إلى البطالة التي هي شيء آخر تمامًا، العاطل، خلافا للخامل، محروم ومستاء، هو في بحث دائم عن الحركة التي يفتقدها». ورواية «البطء» تعد من أقصر أعمال ميلان كونديرا الروائية وقد اشتغل فيها من خلال السرد المتوازي على قصتي حب: الأولى تقع في القرن الثامن عشر بسرد بطيء جدًا لأدق التفاصيل، والقصة الثانية تقع في القرن العشرين من خلال قصة حب إيقاعها سريع جدًا. ينتصر كونديرا في روايته لإيقاع البطء في زمن الحب؛ فهذا الإيقاع هو الذي جعل للحب ذاكرة يحتفظ بها محصَّنة من النسيان، أمَّا إيقاع السرعة فيرتبط لديه بتلاشي الذاكرة وانهيارها وربَّما محوها وطمسها تمامًا! يدعو كونديرا في هذه الرواية، وهو يمجد البطء، إلى الوعي «بالوشيجة السرية» التي تربط البطء بالذاكرة، وتصل السرعة بالنسيان. وفي هذا العالم الذي لا تنفكُّ فيه سرعة كلِّ شيء تتنامى يرى كونديرا أنّنا أضعنا الذاكرة التي تفضي بنا إلى اللذة وتمكننا من الشعور بالمتعة في عيش الحاضر! أستاذة السرديات والنقد الأدبي الحديث المساعد، كلية الآداب، جامعة البحرين.
مشاركة :