سرديات: من كافكا إلى ميلان كونديرا... من «التحوُّل» إلى «حفلة التفاهة»!

  • 11/7/2020
  • 09:19
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

من أهم المعالم الثقافيّة في العاصمة التشيكيّة براغ متحف الروائيّ التشيكيّ فرانز كافكا (1883-1924)، الواقع على ضفة نهر فلتاتفا، ويمثّل هذا المتحف صاحبه الروائيّ الأكثر غموضًا في العالم كلّه: الطبعات الأولى من أعماله، مذكراته، صوره الشخصيّة، بعض مقتنياته. ولن يستوعب هذا المتحف الاستثنائيّ إلا شخص قرأ بعمق منجز كافكا الإبداعيّ، وتمثّل بعمق مسارات حياته المتقاطعة مع حياته الشخصّية. ولـ«براغ» حضور عميق في أعمال كافكا من «التحوُّل» إلى «مستعمرة العقاب» و«المحاكمة» و«طبيب أرياف» و«القلعة»، وهي أعماله الأكثر تأثيرًا وعمقًا، ولـ«براغ» كذلك علاقة خاصة مع كافكا: الحب والكراهية، الجاذبية والنفور، التواصل واللاتواصل، الأمن والخوف. تمثّل رواية «التحوُّل» لكافكا واحدة من أبرز الروايات الاستثنائيّة في تاريخ الرواية العالميّة في القرن العشرين، وهي رواية تبحث في الكينونة الإنسانيّة، والمصائر البشرية الكبرى.. يستيقظ غريغور سامسا ذات صباح «إثر أحلام سادها الاضطراب، وجد أنّه قد تحوَّل، وهو في سريره، إلى حشرة عملاقة، كان مستلقيًا على ظهره، الصُّلب مثلما درع، ولما رفع رأسه قليلاً، رأى كرشه، منتفخة، داكنة، تُجزِّئها خطوط مقوّسة جاسية، والغطاء بالكاد ممدود على أعلاها، ويكاد ينزلق عنها كلية. وكانت قوائمه العديدة، والدقيقة بشكل فادح بالنظر إلى ضخامة بدنه، ما تنفكّ تهتزّ، في حركة يراها ولايستطيع إزاءها شيئًا». ولاتندرج رواية «التحوّل» التي يصنفها بعض النقاد بأنها «قصة طويلة» في سياقات التحوّل إلى «مسوخ» مثل كتاب «التحولات» لأوفيد، وبعض الحكايات الخرافية في المتخيّل الإنسانيّ العالمي؛ إذ تتحوّل الشخصيات الإنسانيّة إلى «كائنات خرافية» تتجاوز أطر المعقول والمنطقيّ وتتداخل مع الخارق والعجيب والسحري! ورغم إدراج بعض النقاد لهذه الرواية ضمن سرديات «الفانتاستيك» أو «العجائبيّ» وفقًا لتصنيف تزفيتين تودوروف إلا أنني أتفق تمامًا مع مترجم مبارك وسّاط أحد مترجمي هذه الرواية إلى العربيّة (منشورات الجمل، 2015) في أنَّ هذه الرواية تكتسي «صبغة واقعية (وصف الحياة اليومية لعائلة غريغور البرجوازية الصغيرة بعدما وقع لغريغور، والحياة اليومية لغريغور نفسه، وهو في هيئته الحشرية المكتسبة، وقد بقي وعيه وعواطفه على ما كانت عليه قبل «التحوُّل»». يتحوّل غريغور ماسا إلى حشرة عملاقة، ويحتفظ في الوقت نفسه بعواطفه ومشاعره، وذاكرته. وفي المقابل يجري التحوّل في محيطه القريب، وهو يرى أسرته تتخلّص من محتويات غرفته، وهو لا يستطيع الكلام: خزانته الشخصية، سريره، منضدة الكتابة التي كان ينجز عليها فروضه الدراسيّة في مدرسة التجارة! إنَّ ثمّة مقاربات تأويليّة لرواية «التحوُّل»، وهي مقاربات أرادت إحداث نوعٍ من المطابقة بين بطل الرواية «غريغور سامسا وكاتب الرواية فرانز كافكا، وهي مقاربات نفسيّة وسوسيولوجيّة وسياسيّة؛ فالناقدان جيرار ريدان وبريجيت فيرنْ نظرًا إلى أنَّ التأويل السياسيّ لـ«التحوُّل» يركز أساسًا على الاستلاب الاقتصاديّ والاجتماعيّ لأسرة تنتمي إلى البورجوازية الصغيرة، وبالتالي فإن تحوّل غريغور الجسماني هو بمثابة علامة على تمرده الفردي ورفضه لحياة مستلبة، لكنَّ التمرد الفرديّ لا يجدي شيئًا، وينتهي بصاحبه إلى الموت والتلاشي. ولدى الناقد ومترجم رواية «التحوّل» إلى الفرنسية بيرنار لورتولاري فإن «المادة الأوتوبيوغرافية في هذه الرواية تبقى مادة ليس إلاّ، وما يمنحها بنية هو مشروع سرديّ يخلق، بتفرُّدٍ أخّاذ، كتابة يتحكّم فيها بأكملها نموذج سلوكيّ، هو تحديدًا نموذج الإقصاء». وفي المقابل أستحضرُ أنموذجًا مغايرًا في فهم كينونة العالم هو الرواية الأخيرة للروائيّ التشيكيّ ميلان كونديرا (1929-) روايته «حفلة التفاهة»، التي أراد من خلالها أن يختزل خطابه الروائيّ كاملاً فيها، وفيها كلّ شيء يتخذ صورة العبث اللانهائي الذي يشتغل عليه كونديرا في رواياته. إنَّ كونديرا في هذه الرواية ذات العمق الفلسفيّ يفكّك كينونة الإنسان. يقول كونديرا: «أدركنا منذ زمن طويل أنه لم يعُد بالإمكان قلب هذا العالم، ولا تغييره إلى الأفضل، ولا إيقاف جريانه البائس إلى الأمام. لم يكن ثمّة سوى مقاومة وحيدة ممكنة: ألا نأخذه على محمل الجد». ماذا يتبقى من حياة أيّ إنسان؟ إنَّها هذه التفاهة بالضبط، وهي التي تتيح لنا أن نشعر بأننا أقلّ أهمية، وأكثر حرية، وأكثر التصاقًا بالأدب من العالم المحيط بنا. وفي هذه الرواية يمتزج التاريخ والفلسفة والهزل، ليروي قصة يلتقي فيها ستالين مع رجال عظماء آخرين من قرون منصرمة يتعايشون في حفلة التفاهة بطريقة متفردة ومغايرة. قليلة هي الروايات التي تفكك بعمق الكينونة الإنسانية ومصائرها الكبرى، ومنها روايات فرانز كافكا وميلان كونديرا، إنَّ مجمل نتاجهما الروائيّ جدير بالقراءة وجدير بالتلقي: روايات نعيد صياغة العالم من حولنا!أستاذة السرديات والنقد الأدبي الحديث المساعد،كلية الآداب، جامعة البحرين.dheyaalkaabi@gmail.com

مشاركة :