هل سمعت عن مشكلة عقار هلوسة جديد أقضّ مضاجع الآباء والأمهات غرباً وشرقاً خوفاً من تأثيره «الانتحاري» على أبنائهم وبناتهم؟ الأرجح أن شطراً كبيراً من الجمهور العربي تابع بقلق أيضاً مسار ظاهرة ذلك العقار المُهلوِس الذي ضرب بقوة في أوساط الشباب واليافعين، وحمل إسم «غبار القرد» Monkey Dust، وأدّى إلى حالات انتحار بينهم، إضافة إلى مظاهر نفسيّة متنوّعة أخرى. وقبل التمعن في تفاصيل تلك المشكلة، يجدر التنبّه إلى أن جزءاً من التأثيرات النفسيّة- العصبيّة لذلك العقار، بما فيها الإقدام على الانتحار، إنما يرجع إلى قدرته على التوهيم بظاهرة معروفة في الطب النفسي، وهي تجربة شعوريّة- إدراكيّة- عصبيّة مُركّبَة تعرف بإسم «الخروج من الجسد». «إنّه يجعل من يتنشقه يشعر بقوة خارقة»، و «بعد تنشق بودرة «غبار القرد»، بريطانيون يأكلون وجوه الناس وينتحرون بالقفز من أمكنة مرتفعة»، «بريطانيّون يتصرفون كأنهم موتى- أحياء («زومبي»): يأكلون لحوم البشر وينتحرون»... بتلك العبارات وما يشبهها، تحدثت وسائل الإعلام العالميّة في الآونة الأخيرة، عن عقار «غبار القرد» الذي يعتبر الأحدث في سلسلة العقاقير التي تروج في أوساط الشبيبة، خصوصاً هواة الموسيقى الإلكترونيّة، سعياً للوصول إلى مستويات عالية من النشوة والشعور بالسيطرة والتفوق. وكذلك حمل العقار نفسه أسماء كـ «غبار الزومبي» و «غبار أكلة لحوم البشر» و «العقار الجديد لتفكيك الشخصيّة» وغيرها. إذاً، يجدر التأمل في بعض المعلومات الأساسيّة عن ذلك العقار الذي يشبه كثيراً عقارات كالـ «أمفيتامين» و «آل أس دي» و «سالفيا» و «الحوت الأزرق» و «مومو» وسواها. معلومات أساسيّة تشمل تأثيرات «غبار القرد» أنه يُدخِل من يتناوله في حال شبه فصاميّة يرافقها الإحساس بالخروج من الجسد، مع هلاوس بصريّة (رؤية أشياء غير موجودة تكون مبهجة ومنتشيّة، أو محزنة ومحبطة ومُحَطِّمة)، وأفكار غير واقعية كوهم امتلاك قوة جسديّة فائضة تجعل السيطرة عليهم عند العلاج صعبة تماماً وغيرها. ولعل الأسوأ هو ذلك الشعور الفائض بالاضطهاد وأوهام عن وجود من يحاول القضاء عليهم، ما يدفعهم إلى الانتحار وغيرها. وفي ذلك السياق، يجدر التنبّه الى المعلومات الأساسيّة التالية عن «غبار القرد»: 1- الاسم العلمي لذلك العقار هو «آم دي بي في» MDPV، ويأتي على شكل غبار بلون بني فاتح، مع قليل من الرائحة. 2- يجري تناوله عن طريق التنشّق، وأحياناً عبر التدخين. وهناك من يدخله إلى جسمه عن طريق الفم أو الشرج أو حتى حقناً في الوريد. وتترافق الطُرُق الأخيرة مع مخاطر الإصابة بالإيدز أو فيروس التهاب الكبد. ويظهر مفعوله خلال نصف ساعة، ويصل ذروته خلال ساعة، ثم يخبو خلال 4 ساعات. 3- تبدأ الجرعة الفعّالة من «غبار القرد» بقرابة 3 ملليغرامات، والجرعة السائدة بين متناوليه تتراوح بين 5 و10 ملليغرامات. وتأتي البودرة التي تحتوي 5 ملليغرامات على هيئة بودرة بحجم رأس عود ثقاب! 4- من غير المعروف حتى الآن إن كان عقار «غبار القرد» يوصل إلى الإدمان أم لا. ويفتح ذلك باباً للأمل بسرعة التخلص منه وعدم العودة إليه. 5- العقار ممنوع من الاستخدام والتداول في الدول الأوروبيّة كلها، وكذلك الحال في الولايات المتحدة، بل هو موضوع في لائحة المواد المحظورة مع تشديد العقوبات في التناول والتداول. عيناك خارج رأسك. إذاً، جدّد عقار «غبار القرد» الاهتمام بظاهرة «الخروج الجسد» التي طالما حلّلها علماء النفس والجهاز العصبي. إذ اكتشف باحثون في بريطانيا طُرُقاً لإرباك الإشارات الحسية التي يتلقاها الدماغ ويتعرف بواسطتها على ما يحيط به، بما في ذلك الزمن الذي يعيش فيه. ويؤدي ذلك إلى وضع يحس الأشخاص فيه بأنهم يقفون خارج جسدهم فكأن عيونهم خارج رؤوسهم وتتفرج عليهم! وبديهي القول إن تلك التجارب لم تُستَخْدَم عقاقير الهلوسة فيها. وفي سياق تجارب أُجرِيَتْ في «معهد طب الأعصاب» في جامعة «يونيفرستي كولدج- لندن»، أورد متطوّعون أُخضِعوا لها أنهم رأوا «أنفسهم»، فكأن شيئاً منهم «خرج» لينظر إلى المحل الذي «كانوا موجودين فيه». وعلّق خبراء «يونيفرستي...» على ذلك التوصيف بالإشارة إلى الاهتمام الأصيل للعلم بموضوع شعور البشر بأنّ النَفْس «كامنة» داخل جسدهم المادي. وبيّنوا أن تلك التجربة لها علاقة بسعي العلماء لفهم الكيفيّة التي يتعرّف بواسطتها الدماغ على موقع الجسد الذي هو جزء منه، في الزمان والمكان. واستطراداً، ثمة اهتمام في علوم النفس والجهاز العصبي بما يحدث للنَفْس إذا وقع شخص ما تحت وهم أنه «نَقَل» عينيه إلى بقعة أخرى من الغرفة ليراقب نَفْسِه وكأنه ينظر إليها من منظار خارجي. هل يحس أن النَفْس مع العيون أم تبقى داخل الجسد؟ أجريت تجارب علميّة لمحاولة الإجابة على السؤال الأخير. ووُضِعَ على رؤوس متطوعين جالسين في مقاعدهم أجهزة فيديو تسمح لهم بمشاهدة أنفسهم من الخلف بواسطة آلتي تصوير فيديو، واحدة لكل عين. خلال التجربة، وقف باحث وراء المتطوعين. وكان يمدّ عصاً بلاستيكية في مجال نظرهم، تحت آلات التصوير، وفي الوقت ذاته يصوّب عصاً أخرى لا يستطيعون رؤيتها، باتجاه صدورهم ويلمسها. وأورد معظم المتطوعون أنّهم أحسوا بأنهم «يقفون خارج أجسادهم ويراقبون أنفسهم». ووجد عدد كبير منهم الشعور «غريباً وحقيقياً... ولكنه غير مُخيف». وفسّر البحاثة ذلك الشعور بأن المتطوّع الذي توهّم «الخروج من الجسد» إنّما أحس بأنّ مركز الوعي لديه (أو ربما «النَفْس») خارج جسده المادي، فبدا له أنه يشاهد جسده من منظار شخص آخر. واستطراداً، تتمثّل الفكرة الأساسية للتجربة بدراسة أثر التغيير الذي تُحدِثَه الصور المرئيّة على علاقتها بالمعلومات الحسيّة التي تحملها تلك الصور. ويرجع ذلك إلى أن الدماغ غالباً ما يسعى إلى اختراق المعلومات الحسيّة، بل إلى حدّ أنه يستطيع مخادعة نفسه، فيتولد فيه وهم تجربة «الخروج من الجسد»! تقنيّات الحقيقة الافتراضيّة تسبر غور الحواس في سياق تجارب علميّة سعت إلى فهم ظاهرة التوهم بـ «الخروج من الجسد»، وأجرى علماء في «معهد طب الأعصاب» في جامعة «يونيفرستي كولدج- لندن»، اختباراً شمل وَضْع مجسّات على جلود المتطوعين لقياس مرور التيار الكهربائي في أعصاب الحسّ لديهم باعتباره مؤشّراً على ردّ الفعل العاطفي عندهم. وكُرّرت التجربة الموصوفة آنفاً، لكن مع جعل المتطوعين يشاهدون مطرقة تهوي على منطقة تحت آلة التصوير، كما لو كانت على وشك أن تؤذي جزءاً غير مرئي من الجسد الذي يرونه من الخارج. وسجّلت المجسات ردات فعل عاطفيّة لدى المتطوّعين كالخوف، ما يعني أنهم أحسوا بانتقال النَفْس من الجسد المباشر إلى «الخارجي» الذي هوت المطرقة عليه! يمكن استخدام نتائج البحث في علم الأعصاب أو حتى في بعض الصناعات المتطورة، كتقنيات المُحاكاة الافتراضية في الكمبيوتر، وفق ما خلص إليه العلماء الذين نهضوا بها. وهناك تجربة مماثلة تولى أمرها فريق من علماء سويسرا في «مختبر الوظائف المعرفية للأعصاب» في جامعة «إيكول بوليتكنيك فيديرال» ركّزت على استخدام الأدوات الإلكترونية التي تُظهر «الواقع الافتراضي» Virtual Reality أمام أعين من يرتديها. وعُرض على المشاركين في الاختبار أشرطة فيديو رقميّة ثلاثيّة الأبعاد تظهر أجسادهم أو دُمى بشريّة أو أشياء موضوعة أمامهم. وبعدها، عُرضت على أعينهم فرشاة أثناء مرورها على الجهة الخلفيّة من الصورة، فيما يفرك أحدهم ظهور المشاركون، إما بالتزامن مع الصورة أو في وقت مختلف. كذلك عُصِبَت أعين المشاركين وأُرجِعَتْ ظهورهم إلى الخلف، ثم طُلِب منهم أن يعودوا إلى وضعيتهم الأصلية. وتفاعل الذين فُركت ظهورهم بالتزامن مع الصور الافتراضيّة الخاصة بهم أو للدمى البشرية، بل تجاوبوا شعوريّاً مع تلك الصور. وفي المقابل، لم يتوصل الذين لم يروا الصور أو الشيء الموضوع أمامهم، إلى فِعل ذلك الأمر. وكخلاصة، رأى العلماء أن التجربة تثبت مقولات في علم النفس عن الدور الذي تلعبه الحواس في التبصر الذاتي الداخلي للمرء، إضافة إلى تعرّفه على موقعه زمانياً ومكانيّاً بالنسبة للمحيط الذي يكون فيه.
مشاركة :