القاهرة - تحولت الكثير من المواد التي تبثها أو تكتبها وسائل الإعلام في مصر إلى ما يشبه الأرشيف، حيث يلجأ الصحافيون والكتاب إلى إعادة تقديم مواد صحافية بصور وأشكال مختلفة، بدلا عن الغوص في القضايا المهمة حاليا، في ظاهرة تحيل مباشرة إلى مسألة التضييق على الحريات ولا تتعلق بالحنين إلى الماضي. الحديث عن قضايا توحي ظاهريا بالحنين للماضي، أو ما يعرف بالنوستالجيا، ليس إلا حالة هروب من الحاضر، مع احتلالها لمساحات كبيرة في وسائل الإعلام المصرية، ليس لأنها تملك تاريخا عريقا تتفاخر به الأجيال، لكن لصعوبة مواجهة الواقع ومراراته وعدم القدرة على التصدي لأزماته. ووجد البعض من الإعلاميين فرصتهم في اختيار علامات مضيئة وتسليط الأضواء عليها، بل والتعامل معها باعتبارها صحافة طازجة. فهناك من نقب ووجد في الحضارة الفرعونية ضالته واختار التركيز على حكام ساهموا في خدمة البشرية، وهناك من عثر على مجده في الذخيرة الحيوية في الأدب العربي، فجرت إعادة تقديم نصوص أدبية ليوسف إدريس ونجيب محفوظ وطه حسين وأحمد شوقي وغيرهم. وثمة فئة استغلت ذكرى رحيل الرئيس المصري جمال عبدالناصر 28 سبتمبر 1970 كأداة جيدة للتذكير بمآثره. وقال مسعد صالح الأستاذ بكلية الإعلام بجامعة القاهرة، في تصريح لـ”العرب”، إنه نوع من إسقاط الماضي على الحاضر لعدم القدرة على تناول الأخير أو هروبا من تبعات تقديمه، وإلقاء الكرة في ملعب القراء لالتقاط الإشارات الخفية، كأن تتحدث الصحيفة عن طلعت حرب ودوره في بناء الاقتصاد المصري (1867 ـــ 1941)، وفي ذهنها السياسات الحالية المغايرة لمبادئه، بما يجعلها بريئة من أي اتهام بانتقاد الواقع أو معاداة الإصلاح. ووقعت إحدى الصحف في حرج بالغ عندما احتفت بذكرى وفاة الصحافي الكبير محمد حسنين هيكل، بينما غاب عنها أن النظام المصري الحالي دخل في خصومة مستترة معه في آواخر أيامه (هيكل)، كما أعادت نشر موضوعات كاملة نشرت نصا في كتب صدرت منذ زمن. وتوجد نماذج كثيرة للتدليل على أن الحنين للماضي إدانة صريحة للحاضر. فعندما يتم الحديث باستفاضة عن يناير 2011 أو ثورة يونيو 2013 في ذكراهما، أو حتى وفاة أحد المفكرين، يتم التطرق للحالة السياسية آنذاك، وهو ما يلمح بالضرورة إلى غياب الحراك السياسي والتفاعل المجتمعي حاليا. وإذا كان هذا الاحتفاء بدافع الهروب من انتقاد المرحلة السياسية الراهنة، فإن هؤلاء سيجدون أنفسهم وقعوا في خطأ أكبر بإحراج من أرادوا الدفاع عنهم في الحكم. مساحة حرية التعبير المحدودة تجعل الهروب إلى الماضي أكثر أمانا، سواء كان قريبا على المستوى الزمني أو بعيدا وتكررت هذه المسألة بوضوح أكثر عندما بالغ إعلاميون في الاهتمام بذكرى الرئيس عبدالناصر، حيث قاد الحديث البعض إلى دوره العربي والأفريقي والإسلامي، وقدرته على الإمساك بزمام المبادرة في قضايا كثيرة في هذه الساحات، وكان هناك فعل مباشر وإدراك لقيمة الدور الإقليمي لمصر، وأحاديث متناثرة لتقييم التصورات والتوجهات والممارسات. والآن تكاد تكون القضايا العربية غائبة عن الكثير من وسائل الإعلام المصرية، في ظل قائمة طويلة من الممنوعات، وضعتها الأجهزة الأمنية التي تملك زمام الأمور في غالبية الملفات العربية التي تهتم بها القاهرة، ومن طبيعتها السرية الشديدة، ما تسبب في شُح المعلومات. وأخفقت غالبية الصحف في مواجهة واقعها المرير والبحث عن حلول عملية لحل أزمة تراجع التوزيع وإحجام القرّاء عن شراء المطبوعات الورقية، وتراكم المديونيات، وارتفاع حجم التحديات التي تهدد استمرار الكثير من الصحف. ولم يفكر الصحافيون والمسؤولون عن وسائل الإعلام في تخفيف الأزمة، واخترعوا العجلة من جديد، عندما تصوروا أن التركيز على الماضي يمثل خلاصا من معاناة التضييق الراهنة. وهذا من قبيل الاستسهال أو الهروب من مفردات الواقع، لأن التحديات مستمرة، وقناة النوستالجيا ستتحول إلى سيف إدانة وليس سيفا لقطع دابر المشكلات. وأضاف صالح لـ”العرب” أن مساحة حرية التعبير والنقد المحدودة تجعل الهروب إلى الماضي أكثر أمانا، سواء كان قريبا على المستوى الزمني أو بعيدا، ويتزايد التماهي مع كل الفنون الصحافية حتى الكاريكاتير الذي يُفترض تناوله وقائع حياتية بات بعض رساميه يلجأون لرباعيات صلاح جاهين ومقاطع من مسرحيات صلاح عبدالصبور للتعبير عن لحظة راهنة. ويتعرض البعض من الصحافيين لمشكلات عند إعادة نشر روابط أو مقتطعات من موضوعات قديمة لهم مجددا على مواقع التواصل الاجتماعي، ليواجه بعضهم بلاغات للنيابة العامة حول قضايا نشروها قبل سنوات في خضم المرحلة الانتقالية التي عاشتها مصر بعد الثورة وشهدت حرية إعلامية كبيرة، ودعاوى قضائية من شخصيات تمت تبرئتها في قضايا فساد وخرجت لتنتقم من كل من تعرضوا لها بالانتقاد أو حتى النشر. ويؤكد صالح أن الظاهرة مرتبطة بحالة عامة يعيشها المصريون على كل المستويات، مثل الهروب من مساوئ الوضع الحالي إلى جماليات الماضي، كالهرولة بعد سماع جزء من أغاني المهرجانات إلى أغنية قديمة لأم كلثوم أو فيروز، والأمر مشابه في المجالين السياسي والمالي. ويبدو أن الإعلاميين وجدوا نبعا يرتوون منه بلا حساب أو رقيب، لم يحسبوا أن اللجوء للتاريخ قد يوقعهم في مطبات عديدة، ليس لأن الملفات المسموح بطرحها دون المستوى ولا يتواءم إنتاجها مع العصر الحالي، لكن لأن الاعتماد على الماضي يعني فقرا مهنيا وسياسيا. وأول ما يتبادر إلى ذهن القارئ، أين هذا الصحافي وجريدته من القضايا الراهنة؟ أليس هناك ما يستحق الوقوف عنده وسط كل الأزمات والمشكلات التي تعاني منها البلاد؟ ويرى صالح أن الصحف فقدت نسبة كبيرة من القراء وباتت بضاعة للطبقات فوق المتوسطة التي لديها الوقت للقراءة والقدرة المالية للشراء اليومي، ومستواهم الثقافي يؤهلهم لالتقاط الإشارات الخفية التي تقدمها الصحف وقد تلجأ لحيلة انتقاء دراسات تاريخية بعينها لارتباطها بسياقات في الواقع يفضل عدم التطرق إليها مباشرة.
مشاركة :