يظل المعلم الأول منقوشاً في ثنايا الذاكرة، ويأبى أن يرحل كآخرين.. إنه من غرس أثراً طيباً، وعلماً نافعاً، وقدم نموذجاً يتمثله تلميذ صغير بدا للتو يتهجى الأبجدية الأولى، بينما لا تخلو الصورة من معلم من نوع آخر؛ حيث لم تسلم الذاكرة من وخز الألم حتى بعد تلك العقود.. مهما مرت من عقود في حياة المرء، سيظل يتذكر معلمه الأول. من الصعب نسيان مرحلة التعليم الأولى.. من الصعب تجاوز مرحلة التشكل المعرفي الأول دون ومضات ووخزات.. في حياة صبي صغير يمضي في مدارج المعرفة. من شارفت أعمارهم على ملامسة العقود الستة، أو حتى تجاوزتها، سيتذكرون تلك المراحل من التعليم النظامي في مدارس أخذت ملامحها من ظروف البدايات وبواكيرها. لا أتحدث عن جيل الكتاتيب وكثير منهم رحل، بل أتحدث عن جيل بدأ وعيه المعرفي ومشواره التعليمي في مدراس أخذت شكلها المدرسي المعروف، حيث بقي المعلم والكتاب والصف، بينما تغيرت أشياء كثيرة حولنا. يظل المعلم الأول منقوشا في ثنايا الذاكرة، ويأبى أن يرحل كآخرين.. إنه من غرس أثرا طيبا، وعلما نافعا، وقدم نموذجا يتمثله تلميذ صغير بدا للتو يتهجى الأبجدية الأولى، بينما لا تخلو الصورة من معلم من نوع آخر؛ حيث لم تسلم الذاكرة من وخز الألم، حتى بعد تلك العقود. لأبناء الجيل الذي عشته وعايشته وكنته ملامح فارقة، تغيرت اليوم كثيرا، فأبناء اليوم يتمتعون بمعاملة لم نعرفها.. فلا عنف لفظيا أو جسديا يطولهم في مدارسهم، وإن حدث فحالات خاصة، بينما كانت في مدارسنا حفلات من الألم والضرب، ناهيك عما هو أقسى أحيانا، وهي السخرية المرة التي تكاد تكون وجبة يومية، إلا أن ثمة فارقا أيضا لا ينكره إلا من لم يعرف إمكانات جيل آخر؛ حيث مستوى التعليم والتحصيل والاعتماد على الذات، والتزام معلم وشعوره الفائق بالمسؤولية، ربما كان أكبر بكثير مما نشهده اليوم. لا أستطيع أن أنسى مشهدا ظل في ذاكرة الصغير، وهو يصطف مع أقرانه وزملائه في ساحة المدرسة في نهار بارد؛ ليشهدوا حفلة جلد لمجموعة من الطلاب ممن تجرأوا على الهرب من المدرسة. كانت العصي من جريد النخل الحي، وكانت الأقدام مشدودة، وكان الضرب مبرحا، يختلط الصراخ بالبكاء بالضجيج، والمعلم/ الجلاد.. يتلذذ ربما بمزيد من إلحاق أكبر الألم في جسد الطالب النحيل، بل مزيد من هدر كرامة طالب كان يتهيأ للحاق بالصفوف الأخيرة.. أما المؤلم أكثر أن أولئك الطلاب لم نعد نراهم في المدرسة، لا أعرف أين ذهبوا ولا مصيرهم، لكن ما أعرفه أنهم لم يعودوا بعد ذلك اليوم لمقاعد الدراسة. أما الأذى اللفظي فحدِّث ولا حرج.. وجبات يومية تجعل الطالب الصغير حتى لو كان حذرا ومؤديا واجباته وملتزما بكل تعليمات معلمه، يأتي كل صباح مذعورا خائفا.. هل يتصور أبناء هذا الجيل أن يكون صباح أي منهم يبدأ من معلمه بهذه العبارة «يا.. يا.. يا دابة يا ابن الدواب...». إلا أن عدالة القول وثمرة التعليم آنذاك تلزمنا بأن ننصف معلمين كثرا.. والحق أن حرص بعض المعلمين على الطلاب في تحصيلهم قد يتجاوز إلى عقاب بدني أو لفظي، إلا أنهم أيضا جعلوا التعليم مسؤولية ورسالة وهدفا، ولم يكن كل طالب يملك الاستجابة الطبيعية لوظائف لا بد من مقاربتها في مدارس ذلك العهد، ولذا يأتي بعض العقاب مفيدا لأخذ الأمر على محمل الجد. أما ما يبقى في الذاكرة، وهو يستدعي الامتنان والشكر، فهو معلم كريم الأخلاق، يزرع المحبة والتقدير في قلوب التلاميذ الصغار؛ حتى يستجيبوا بحب وقابلية لدرسه ومادته.. وهنا لن تزدحم الذاكرة بكثيرين، ولكن ستتوقف عند آحاد متميزين متفردين في كل مراحل التعليم.. وإن كانت المرحلة الأولى الأكثر أهمية وتأثيرا. أعبر عن امتناني لأسماء لا تعرفونها ولكنكم تدركون ماذا تعني، ولكل منكم ذاكرة تحمل شيئا إيجابيا نحو أشباهها.. لا تهم مفردات الاسم، قدر ما يعني ذلك التجسيد المغروس في الذاكرة، بمعنى أن تكون معلما تنقش أثرا في عقل تلميذ من الصعب زواله. في مرحلة التعليم الابتدائي أكن حبا واحتراما كبيرين لمعلمين رائعين ما زلت أذكرهما بكل خير، فلم يكن معلم اللغة العربية الأستاذ الفلسطيني/ أحمد شوقي، سوى كفارة عن كل سوء يطول طلاب الأمس في مدرسة يزيد الشيباني الابتدائية بمدينة الدمام. كان متفردا في طريقته في التعليم وفي إخلاصه لمهمته، وفي إلمامه الكبير بمادته.. كان أنيقا وقيافته رائعة.. خطه الجميل وبألوان عديدة يملأ لوحة الصف.. كان عنوانا لحزم مع احترام وبذل مع إنصاف.. أحببت في رحاب هذا المعلم اللغة العربية، وصارت حصته الدراسية واحة أتفيأ ظلالها بعد هجير معلمين يودون لو كسروا كل يوم عصيهم على رؤوس طلاب صغار للتو يقاربون الحياة. أما المعلم الآخر الذي ترك أثرا لن ينسى، فهو صالح الربيعان، فرغم العنف السائد في تأديب الطلاب آنذاك، لم أشهده يوما رفع عصا على طالب، كان حريصا على مستقبل الطلاب، حنونا على التلاميذ، بشوشا في وجوه أشقياء يغريهم تسامحه بمزيد من الهرج والمرج. كان يشرف على ندوة الأسبوع الأدبية، التي تعقد كل يوم خميس في قاعة المدرسة، إضافة إلى مهماته التعليمية الأخرى، آخر مرة لقيته فيها عندما ودعت مدرستي الابتدائية، كان حينها وكيلا للمدرسة، وكتب بيده شهادة حسن سيرة وسلوك.. ما زلت أحتفظ لهذين المعلمين بشيء بقي لا يغادر مكتبتي، دفتر مدرسي يحمل خط وتوقيع معلمي أحمد شوقي، وشهادة حسن سيرة بخط معلمي صالح الربيعان. لا أعرف أين هما الآن.. الفارق بين هذه اللحظة وتلك 45 عاما، فلهما الشكر والتقدير والامتنان إن كانا على قيد الحياة.. ولهما الرحمة والمغفرة إن كانا رحلا عن هذه الدنيا.
مشاركة :