في 7 يوليو (تموز) الماضي، نشر تشارلي كيرك، مؤسس منظمة «تيرنينغ بوينت يو إس إيه» وأحد الوجوه التي يجري استضافتها بانتظام عبر شاشة «فوكس نيوز»، «تغريدة» تضمنت إحصاءات مفزعة لكنها غير دقيقة حول نمو مزعوم في أعداد عمليات إلقاء القبض على المتورطين في الاتجار بالبشر في ظل إدارة ترمب. وأعلنت «التغريدة» أنه بلغ إجمالي عمليات إلقاء القبض على صلة بالاتجار في البشر 1952 عملية خلال عام 2016، بينما قفز العدد إلى 5987 عملية خلال النصف الأول فقط من عام 2018، وزعمت «تغريدة» كيرك، أن هذه الأرقام صادرة عن وزارة العدل.إلا أنه في غضون فترة قصيرة، حذف كيرك تغريدته بعدما اتضح المصدر الأصلي للأرقام الواردة بها: منتدى صور سيئ السمعة عبر شبكة الإنترنت يدعى «8 تشان»، يشكّل مقر «باحثي» نظرية المؤامرة لدى كيان «كانون» الغامض. وتسعى «الأبحاث» المزعومة إلى تجميع معلومات من تقارير إخبارية في شتى أرجاء البلاد حول عمليات القبض وقرارات الاتهام المتعلقة بالاتجار في البشر ودعارة الأطفال، بهدف دعم فكرة أساسية تدور حولها نظرية «كانون» للمؤامرة - ومفادها أن ترمب يخوض معركة سرية ضد دولة عميقة فاسدة ومجموعة من النخب الشريرة التي تعبد الشيطان. ويعتقد المساهمون في «كانون» أنهم إذا نجحوا في إظهار أن مزيداً من المتورطين في الاتجار في البشر يجري إلقاء القبض عليهم، فإن هذا من شأنه دعم فكرتهم التي لا أساس لها حول أن ترمب يضع أخيراً نهاية لعصابات اتجار بالبشر ظلت تتمتع بالحماية لفترة طويلة وكانت تخدم تلك النخب.ومع أن كيرك ربما لم يدرك هذا الأمر للوهلة الأولى، فإنه سقط في فخ هذا الوهم الجمعي لبعض أكثر مؤيدي ترمب عبر الإنترنت غرابة.ويميل الناس في بعض الأحيان إلى رفض المنتديات المشابهة لـ«8 تشان» باعتبارها مجرد حفنة من المخادعين والأفاقين، إلا أن نجاح منتدى صور «8 تشان» في نشر رسائل مجموعة «كانون» الغامضة يوحي بأن هذه المنتديات أكبر من ذلك بكثير. في الواقع، تمثل هذه المنتديات قوة سياسية بمقدورها اختلاق قصص تترك أصداءً على نطاق واسع، وترويجها عبر شبكات التواصل الاجتماعي الكبرى لتصبح جزءاً من التيار الرئيسي.في 19 يناير (كانون الثاني)، ساند المشاركون في «8 تشان» رفاقهم الداعمين لـ«كانون» في حملة رقمية استمرت يوماً بأكمله. وسعى المشاركون في الحملة، الذين كانوا مجهولي الهوية حتى بعضهم إلى بعض، خلف أهداف محددة وطموحة. لقد رغبوا في جعل «هاشتاغ» يحمل عنوان «اكشفوا عن المذكرة» في صدارة موقع «تويتر»، بهدف تحويل ما عُرف باسم «مذكرة نونيس» إلى قضية نقاشية كبرى في التيار الرئيسي من وسائل الإعلام. وقد أملوا أن يؤدي ذلك إلى كشف النقاب عن المذكرة نهاية الأمر.وبالفعل، نفّذ المشاركون خطة محكمة ومنظمة جيداً وعكست فهماً كبيراً لكيفية استغلال وسائل الإعلام. واتسمت المجموعة بوجود هدف محدد نصب عينيها، ورسالة محددة حول الفساد الحكومي، واستغلت أصولاً إعلامية جماعية واتبعت استراتيجية إعلامية واضحة. وكان جميع المشاركين متطوعين رغبوا ببساطة في التعبير عن رسالة. وجاءت هذه الجهود جميعها بإلهام من جانب العضو الغامض في منتدى «8 تشان» المدعو «كيو»، الذي يسود حوله اعتقاد بأنه مسؤول حكومي رفيع المستوى مقرب من الرئيس ترمب وينشر معلومات في رسائل مشفرة تعرف باسم «قطرات كيو» (كيو دروبس). واعتقد المؤمنون بنظرية «كانون» للمؤامرة أن الكشف عن «مذكرة نونيس» سيفضح في نهاية الأمر فساد «الدولة العميقة» وربما يدمر التيار الرئيسي من وسائل الإعلام.والسؤال الآن: هل نجحت الحملة؟ في الواقع، حققت حملة «اكشفوا عن المذكرة»، التي كان أعضاء «8 تشان» مجرد جزء منها، نجاحاً مدوياً. وخلص تحليل أجرته مجموعة معنية باستخبارات وسائل التواصل الاجتماعي تُدعى «نيو ميديا فرونتير» إلى أن حملة «اكشفوا عن المذكرة» انتقلت من وسائل التواصل الاجتماعي إلى التيار الهامشي من وسائل الإعلام ومنها إلى التيار الرئيسي من وسائل الإعلام، وذلك على «نحو سريع للغاية جعل من المستحيل تجاهل القصة والسرعة التي انتشرت بها». وحتى الآن، من غير المعروف تحديداً حجم الإسهام الذي قدمه منتدى «8 تشان» في الحملة، لكن يمكن القول بأن الحملة حققت أهدافها إلى حد كبير.ولا يعتبر تشارلي كيرك الشخصية السياسية الوحيدة المنتمية إلى التيار الرئيسي التي روجت عن غير قصد لأفكار جماعة «كانون». في الواقع، كانت الممثلة والكاتبة روزان بار واحدة من أوائل الشخصيات المنتمية إلى التيار الرئيسي من المجتمع التي سقطت في فخ الترويج لنظريات «كانون» للمؤامرة ولا تزال أشهرها، بل وأعاد ترمب نفسه نشر «تغريدة» من حساب باسم «ماغابيل» عبر «تويتر» معروف أنه يروج أفكار «كانون» في 25 نوفمبر (تشرين الثاني) 2017، في غضون أقل من شهر من ظهور أول منشور للشخص المدعو «كيو» عبر منتدى «8 تشان». وحتى الآن، لم تُحذف «التغريدة».اللافت أن جماعة «كانون» أكدت وجودها في العالم الواقعي أيضاً، ذلك أنه خلال المسيرات المؤيدة لترمب في فلوريدا وبنسلفانيا وأوهايو، حرص بعض المشاركين على التلويح بلافتات تحمل الحرف «كيو» أمام الكاميرات، وكان البعض يرتدي قمصاناً تحمل الحرف نفسه. وقد دفع هذا الحضور الواضح العديد من وسائل الإعلام الإخبارية المنتمية إلى التيار الرئيسي لطرح محاولات تفسير لـ«كانون». وكانت هذه بالتأكيد لحظة فارقة في تاريخ المجموعة. وفي رسالة نشرها المدعو «كيو» بتاريخ الثاني من أغسطس (آب) الماضي، في أعقاب موجة من التغطيات الإعلامية لـ«كانون» بعد تنظيم مسيرة مؤيدة لترمب في تامبا بفلوريدا، قال: «مرحباً في عالم التيار الرئيسي. لقد كنا على ثقة من أن هذا اليوم سيأتي». بمعنى آخر، فإنه حتى الاهتمام الذي يشكك في هذه المجموعة يخدم استراتيجيتها الإعلامية.والآن، إلى أي مدى انتشرت «كانون»؟ في الواقع من الصعب تحديد عدد المؤمنين بنظرية المؤامرة، لكن استطلاعاً للرأي أجرته صحيفة «ذي واشنطن بوست» بين أبناء فلوريدا توصل إلى أن 58 في المائة على معرفة كافية بـ«كانون» لأن يكوّنوا رأياً محدداً بشأنها. ورغم أن تقييم «كانون» جاء سلبياً من قِبل من أشاروا إلى معرفتهم بها فإن هذا يبقى إنجازاً لافتاً عند النظر إلى جذور «كانون». الحقيقة أن محاولة بناء حركة سياسية جديدة اليوم والنجاح في الوصول إلى 58 في المائة من الأفراد في غضون أقل عن عام، من دون الاعتماد على ميزانية وعبر مجرد نشر منشورات عبر منتدى صور مجهول بالإنترنت، يعد إنجازاً لافتاً بجميع المقاييس.ومع استمرار تطور أسلوب صياغة وسائل التواصل الاجتماعي لطرق اطلاع الأميركيين على الأخبار ومناقشتهم لها، تبدو مثل هذه القوى الافتراضية الجديدة في طريقها نحو مزيد من النمو. والواضح أننا سنشهد الفترة المقبلة اضطلاع أشخاص مجهولين يتبعون أجندات غير معروفة عبر منصات إلكترونية مخصصة للبارعين فقط في التعامل مع التكنولوجيا، بمهمة تحديد القضايا التي ستحفّز الناس على التصويت في الانتخابات وكتابة رسائل لنواب الكونغرس وتنظيم مسيرات والدخول في نقاشات عبر الإنترنت.وليس هذا محض تكهن، وإنما يشير الانتشار السريع لـ«كانون»، رغم الجنون الواضح لنظرية المؤامرة التي تروّج لها، إلى أن هذه الأجزاء المظلمة من الإنترنت أصبح لها تأثير ونفوذ بالفعل. الملاحظ أن إحصاءات زائفة وموجات ذعر شيطانية و«ميمات» مضللة يجري ضخها عبر الإنترنت من داخل مستنقعات مظلمة إلى داخل خطاب التيار الرئيسي بمعدل متسارع. وعندما يحدث ذلك، فإن قليلاً للغاية من مستخدمي شبكات التواصل الاجتماعي يعرفون الأصل الحقيقي لهذه «الميمات» التي يتشاركون فيها أو يتحدثون عنها. لذا، ربما حان الوقت لتوجيه بعض الاهتمام إلى المصدر الحقيقي لكل هذه المزاعم التي نلقاها عبر الإنترنت.* خدمة «واشنطن بوست»
مشاركة :