أقل من شهر بقليل بقي في جعبة رئيس الوزراء العراقي المكلف عادل عبد المهدي لتشكيل حكومته "التوافقية". ما شكل تلك الحكومة ومجالي حركتها ومناورتها؟ وهل ستأتي بما لم تستطعه الأوائل؟ بسرعة البرق وبدون تردد وبعد أقل من ساعتين على الإطاحة بمنافسه على رئاسة الجمهورية في جلسة تصويت برلمانية، كلف الرئيس العراقي الجديد برهم صالح نائب رئيس الجمهورية السابق عادل عبد المهدي تشكيل الحكومة خلال مهلة دستورية لا تتخطى شهراً. وجرت التقاليد في العراق، بأن تسمي الكتلة الأكبر داخل البرلمان مرشحها، وبالتالي يكلف رئيس الجمهورية هذا المرشح بتشكيل الحكومة. لكن هذه المرة تغيرت العادة مع تسمية رئيس حكومة مستقل، حتى قبل أن تتوضح معالم الائتلاف البرلماني القادر على تشكيل الحكومة. قُضي الأمر! ينزع اختيار عادل عبد المهدي (76 عاماً) لرئاسة الوزراء فتيل توتر استمر شهوراً بين الكتلتين الشيعيتين الرئيسيتين في العراق اللتين فازتا بأكبر عدد من المقاعد ولهما أقوى الفصائل المسلحة. ويقود مقتدى الصدر ورئيس الوزراء السابق حيدر العبادي إحدى الكتلتين الشيعيتين بينما يقود الأخرى قائد "الحشد الشعبي" المدعوم من إيران هادي العامري ورئيس الوزراء السابق نوري المالكي. يرى مستشار المركز العراقي للدراسات والتنمية الإعلامية، علي فضل الله، في حديث لـ DW عربية أنه ومن خلال تقارب كتلتي "سائرون" و"الفتح" وتحقيق الأكثرية في مجلس النواب لا تبدو مهمة عبد المهدي في تشكيل الحكومة "صعبة". وفي نفس الاتجاه يذهب المحلل السياسي العراقي، ياسر جاسم، الذي يعتقد أن عادل عبد المهدي سينجح بتشكيل الحكومة باعتباره "مرشح تسوية". ويطالب الصدر منذ أشهر بحكومة من "التكنوقراط" عابرة للأحزاب. وهو أيضا مطلب آية الله علي السيستاني، أعلى مرجع شيعي، وصاحب التأثير الكبير على الساحة العراقية. واليوم جدد الصدر مطالبته بتشكيل حكومة وزارية دون ضغوطات حزبية، مشدداً على أنه أوعز بعدم ترشيح أي وزير من جهته: مستقل سياسياً؟ عادل عبد المهدي تنقل برشاقة بين عدة اتجاهات فكرية وسياسية؛ فوالده كان وزيراً في العهد الملكي، أما هو فقد عرف طريق السياسة أولاً عبر حزب البعث العربي الاشتراكي، ثم معارضاً للبعث كشيوعي ماوي، ثم إسلامياً في المجلس الأعلى الإسلامي العراقي (المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق)، وهي حركة أسسها آل الحكيم المقربون من إيران. وبعد سقوط صدام حسين أقلع في مشواره في السياسة العراقية من جديد كعضو في مجلس الحكم المؤقت الذي شكلته القيادة العسكرية الأميركية بعد العام 2003، ثم اختير لفترة وجيزة وزيراً للمالية في الحكومة الانتقالية، قبل أن يصبح نائباً لرئيس الجمهورية بعد أول انتخابات متعددة الأحزاب في العراق العام 2005. وفي العام 2014، عين عبد المهدي وزيراً للنفط في حكومة رئيس الوزراء آنذاك حيدر العبادي الذي يخلفه اليوم، لكنه استقال من المنصب بعد عامين. واليوم يقدم عادل عبد المهدي نفسه كمستقل. غير أن ياسر جاسم يضع إشارات استفهام حول كلمة "مستقل"، ويضيف في حديث خاص لـ DW عربية أن عبد المهدي "لم ينفك عن التيارات الشيعية الإسلامية وما يزال يجاملها". حكومة تكنوقراط "منقادة" يرى ياسر جاسم أن خيارات عادل عبد المهدي في تشكيل حكومة قوية تلبي طموحات الشعب العراقي لن تكون كبيرة: "أنا غير متفائل؛ إذ أن الحكومة المقبلة ستكون مكبلة بالتوافقات السياسية والمحاصصات الحزبية والطائفية". ويعلق ياسر جاسم على ما يقال أن قدرة عبد المهدي في "اختيار" الوزراء ستكون جيدة: "هذا غير صحيح، وحتى لو أتى بوزراء تكنوقراط، فإنهم سيكونون، حالهم حال نظرائهم في الحكومة الحالية، تابعين لكتلهم". أما علي فضل الله فيشير إلى أن براغماتية وخلفية عادل عبد المهدي العملية ستمنحان الرجل فسحة للمرونة في اختيار الوزراء، خاصة في ظل ما تسرب عن شكل جديد لتشكيل الحكومة: عرض أكثر من مرشح من الكتل ويقوم عبد المهدي بالاختيار من بينهم، على حد تعبيره. ويتفق علي فضل الله مع ياسر جاسم بأن "مخرجات" التشكيل لن تكون على مستوى طموح الشارع العراقي: "الحكومة التوافقية ستكون ضعيفة على شاكلة الحكومات السابقة". ولكنه يعود ويستدرك أنه يفضل عدم استباق الأمور والإقلاع عن "التشاؤم" وعدم الحكم على الحكومة المقبلة قبل تشكيلها، هذا في وقت يقرّ فيه بصعوبة التحديات الاقتصادية والخدمية والفسادين المالي والإداري اللذين تواجههما. ويفتقر عبد المهدي إلى أدوات الحكم الضرورية والسلطة الفعلية. يقول الباحث في كلية الدراسات العليا في العلوم السياسية بباريس عادل بكوان لوكالة فرانس برس "ليس لديه دعم من حزب سياسي قوي، ولا قاعدة اجتماعية ولا بعد ميليشياوي". لذا، سيكون مرغماً على إرضاء كل من يزعم أنه أكبر ائتلاف حكومي. ويقول الخبراء إن عدد الوزارات يمكن أن يتضاعف لهذا السبب. البصرةوالصدر وجاء ترشيح عادل عبد المهدي بعد أسابيع من الاحتجاجات التي شهدتها البصرة الغنية بالنفط والتي تمثل قلب منطقة الانتشار الشيعي في جنوب العراق الأمر الذي هدد بزعزعة استقرار البلاد. وقد أقنع عجز الحكومة عن احتواء هذه الاحتجاجات وتوفير الخدمات الأساسية التي كان السكان يطالبون بها الصدر بالتخلي عن حليفه العبادي رئيس الوزراء. وقال مصدر وثيق الصلة بالصدر "بعد الاضطرابات في البصرة، السيد مقتدى كان على قناعة بأن رئيس الوزراء الذي فشل في توفير الماء النظيف لشعبه سيفشل مطلقاً في توفير الاستقرار لبلده". وأضاف "هذا كان كافياً للسيد مقتدى لكي يجلس مع العامري ويقبل بمرشح التسوية، عبد المهدي". ولا يذهب ياسر جاسم في رأيه بعيداً: "احتجاجات البصرة أنهت حلم الولاية الثانية لحيدر العبادي". وينوه إلى أن الشارع في البصرة مترقب لما ستسفر عنه التشكيلة الحكومية، ولكنه غير قادر على تعطيل تشكيلها لأن القرار بيد "النخب السياسية". تنمية "سياسية" "الخلاف المحتدم داخل البيت الكردي بين صقور الحزب الديمقراطي الكردستاني والحزب الوطني الكردستاني وتعدد المرجعيات السنية يجعلان الشيعة في موقع أقوى من الماضي"، كما يرى علي فضل الله، مستشار المركز العراقي للدراسات والتنمية الإعلامية. أما ياسر جاسم فيكتفي بالإشارة إلى أن المكونين هما جزء من "التوافق" الذي أتى بعبد المهدي. وقد شكل انتخاب برهم صالح رئيسا للجمهورية وتكليف عادل عبد المهدي تشكيل الحكومة المقبلة، سقوطاً قاسياً للحزب الديمقراطي الكردستاني ولحزب الدعوة الإسلامي الشيعي. فللمرة الأولى منذ إجراء أول انتخابات تعددية في العراق العام 2005، يتم تكليف رئيس وزراء من خارج حزب الدعوة. وفي الوقت نفسه، سجل الحزب الديموقراطي الكردستاني، أكبر حزب كردي بزعامة مسعود بارزاني، خسارة كبرى، بفوز برهم صالح بواقع 219 صوتاً في مقابل 22 صوتاً لمرشح البرزانيين. ولكن على نطاق أوسع، يشير الخبير في الشأن العراقي فنر حداد إلى أن المعطيات الجديدة لحزبي الدعوة والديموقراطي الكردستاني "تشكل خطوة إيجابية للتنمية السياسية العراقية (...) وهو كسر مرحب به للممارسات السابقة". ويؤكد الباحث في جامعة سنغافورة لفرانس برس أن تلك التطورات تنهي لعبة "المكاسب الصفرية"، حيث كانت الأحزاب الكبيرة تتقاسم الربح والخسارة، مع إقصاء القوى الأخرى، وبذلك يبتعد العراق عن سياسة ارتبطت به منذ العام 2003. خالد سلامة
مشاركة :