150 موقعا أثريا وتراثيا مفتوحا ومهيأ للزوار، مكّنت المملكة من أن تحتل مكانة مرموقة في مجال الثقافة والفنون على مستوى العالم، لكنها - رغم كثرتها وأهميتها - لا تسهم بشكل فعّال في الناتج المحلي الإجمالي، بحسب مهتمين بالمجالين السياحي والثقافي. وبحسب دراسة أجرتها الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني بالتعاون مع البنك الدولي، فإن إجمالي رحلات السياحة الثقافية في المملكة يُقدر بـ 6.3 مليون رحلة، إلا أن الدراسة أوصت مجموعة من التوصيات لتفعيل هذا النوع من السياحة، مثل الاستثمار بالقرب من مواقع التراث الثقافي، وتخفيض القيود الإجرائية على الزوار الوافدين، لتحقيق استفادة أعلى للمملكة ملتقى الحضارات الإنسانية. تمثل 10 % من سياح العالم يعرّف الكاتب الفرنسي بيير أوريجيه دو كلوزو في كتابه المعنون بـ"السياحة الثقافية" هذا النوع من السياحة بأنها انتقال شخص من مكان ما إلى آخر وقضاء ليلة واحدة فيه، ويكون الغرض الأساسي من هذا الانتقال هو البحث والاكتشاف والتفاعل، وذلك من خلال اكتشافه لتراث ما على أرض ما، ويشمل هذا التراث، والمعالم التاريخية، إضافة إلى العادات والتقاليد. تمثل السياحة الثقافية أكثر من 10 في المائة من إجمالي السياح في العالم، فيما تشير تقديرات منظمة السياحة العالمية إلى أن هذا النوع من السياحة ينمو بمعدل 15 في المائة سنويا، ويشكل ما نسبته 11 في المائة من مجمل الإنتاج العالمي، ويوفر 200 مليون وظيفة، أي ما يعادل 8 في المائة من مجموع الوظائف في العالم، إلا أن هذا الحقل السياحي غير مستغل على النحو المنشود في المملكة، لحداثة إنشاء هيئات ووزارات معنية بالشأن الثقافي، مثل الهيئة العامة للثقافة ووزارة الثقافة اللتين أنشئتا أخيرا، ولم تنطلقا بعد بكامل طاقاتهما، إضافة إلى وجود قيود وأنظمة غير مرنة تتعلق بإصدار التأشيرات السياحية الثقافية. يأتي ذلك في الوقت الذي أعلنت فيه الهيئة العامة للرياضة تأشيرات سياحية لحضور الأحداث الرياضية، وتسمح لحاملها بالاستمتاع بالفعاليات، والحصول عليها في دقائق معدودة، بدءا من ديسمبر المقبل، لتظهر مطالب على منصات وسائل التواصل الاجتماعي بالسماح للزوار من حول العالم بالاطلاع على الجانب الحضاري للمملكة، من خلال تأشيرات للسياحة الثقافية، لحضور المناسبات والمهرجانات الثقافية، والاطلاع على المواقع الأثرية والمتاحف ومواقع التراث العمراني. جهود سعودية عملت الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني منذ تأسيسها على تفعيل نمط السياحة الثقافية، ونجحت في تأسيس ودعم عدد من المهرجانات الثقافية والتاريخية، مثل سوق عكاظ أحد أبرز أسواق العرب، الذي عاد بوهجه القديم بعد غياب استمر 13 قرنا، إضافة إلى مهرجان جدة التاريخية، ومهرجان الصحراء في حائل، ومهرجان الصقور، التي تسوّق لتراث المملكة جنبا إلى جنب المهرجان الوطني للتراث والثقافة (الجنادرية)، الذي يقام تحت إشراف وزارة الحرس الوطني منذ نحو 33 عاما. كما طورت الهيئة عددا من الوجهات السياحية، وطورت كذلك طرقا وأسواقا تاريخية، وقرى تراثية، واهتمت بتوثيق الفولكلور الشعبي والمأكولات الشعبية وضمان استمراريتها. ووفقا لما نشرته هيئة السياحة على موقعها الإلكتروني، فإن برنامج خادم الحرمين الشريفين للعناية بالتراث الحضاري يعمل على تطوير مشروعات ستكون وجهات سياحية تراثية بعد الانتهاء منها، مثل تأهيل أربعة من قصور الدولة التاريخية في عهد الملك عبدالعزيز (عام 2020م)، ثم 20 قصرا في المرحلة الثانية (2030م)، وتشغيل عشرات المتاحف والمواقع الأثرية والبلدات التراثية، فضلا عن مشروعات توثيق التاريخ الإسلامي، مثل إنشاء متحف المعارك الإسلامية الكبرى، وتهيئة مواقع غزوات أحد والخندق والحديبية، وجبلي النور وثور وغار حراء، إلا أنها تحتاج إلى التسويق السياحي في دول المنطقة والعالم، ووجود أدلاء ومرشدين سياحيين بلغات متعددة، ولافتات إرشادية على مستوى عالمي، وإزالة قيود الوصول إليها، وفق ضوابط ومعايير قانونية وأمنية. الاستثمار في السياحة الثقافية في السياق ذاته، وضعت المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (إيسيسكو) استراتيجية لتنمية السياحة الثقافية في العالم الإسلامي، وقالت في الاستراتيجية، التي اطلعت عليها "الاقتصادية"، إن السياحة بشقها الثقافي تهدف إلى التعريف بالتراث المادي واللامادي، والمنجز الثقافي والحضاري، وما تحظى به الدولة من مبان أثرية، ومدارس عتيقة، ومتاحف، ومكتبات، وأبواب تاريخية وأسوار وقلاع وحصون ذات طابع عسكري، إضافة إلى التراث الشفهي مثل الفنون الشعبية، وفنون الأزياء والطبخ والمواسم الدينية والفنية، إلى جانب المكونات الثقافية الحديثة، من مؤتمرات متعددة الاختصاصات، وندوات علمية، ولقاءات ثقافية، ومعارض حرفية. وتضمن برنامج عمل (إيسيسكو) اعتماد قطاع السياحة الثقافية جسرا للتواصل الحضاري، ووضع مشاريع تشاركية كبرى بغرض التسويق الدولي، مثل التسويق السياحي لطريق الحج الإفريقي والمغاربي والآسيوي، والاحتفاء بطريق الحرير، وتأهيل الكفاءات العلمية والتقنية والإدارية من أجل إبداع أفكار جديدة، واقتراح مشاريع قابلة للتنفيذ، إضافة إلى وضع أرضية صلبة لمجموع الشروط القانونية والفنية. كما تضمنت الاستراتيجية الإعداد الاحترافي لخرائط السياحة الثقافية، وجرد الكنوز الوطنية والتراث التاريخي الثقافي، واستثمار هذا القطاع لتنويع سبل تحقيق التنمية المستدامة، في ظل توقعات بأن يصل عدد السياح في مجال الثقافة إلى 1.6 مليار سائح في عام 2020. تجارب ناجحة وبحسب الأرقام الصادرة من المنظمات والهيئات المعنية، مثل منظمة السياحة العالمية، فإن تركيا نجحت في تطبيق مفهوم السياحة الثقافية، من خلال استثمار الأماكن الأثرية التي تروي حضارات سكنتها، وأسمى مثال على ذلك، الإقبال الكبير من دول المنطقة على زيارة إسطنبول، المدينة التي كانت عاصمة للدولة البيزنطية لمدة 400 سنة، ثم الدولة العثمانية لمدة مماثلة، وما تركته هاتان الدولتان من آثار تاريخية. وقد وفر الأتراك منظومة متكاملة للترويج للمناطق الأثرية في بلادهم، من خلال برامج سياحية بمختلف اللغات، ساهمت في نمو عدد السياح إلى تركيا إلى 25 مليون سائح سنويا. ولا تقف السياحة الثقافية في تركيا على مفهوم زيارة المواقع الأثرية من قصور للسلاطين ومساجد ذات طراز عمراني مميز؛ بل توفر خيار زيارة الأسواق التاريخية، والتعرف على الحرف اليدوية، ودفع السائح لاقتناء بعض الأعمال والتذكارات والتحف الفريدة. هذا إضافة إلى استحداث مهرجانات ومناسبات تلعب دورا في بقاء السائح لأطول فترة ممكنة، وتفعيل دور الفرق المسرحية والموسيقية، والمعارض والمؤتمرات التي تقام بشكل دائم. وربطت تركيا هذه السياحة بالإبقاء على الصناعة والحرف القديمة، مثل صناعة الحلقوم، والجلود، والفخاريات، والنحاسيات، والملابس التراثية، وصحون الزينة، وفناجين القهوة، والقلادات وغيرها، حيث يحافظ كبار السن وأبناؤهم من الجيل الجديد على هذه الحرف، في حين نجد الرموز التراثية العربية مثل الفوانيس المصرية، أو الكوفيات الفلسطينية، والسراويل اللبنانية، بأنها صناعة صينية، وليست استثمارا وصناعة عربية بيد من يتقنونها على أصولها.
مشاركة :