اختزل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان العلاقات السياسية لتركيا مع العالم إلى حدود ضيقة. ولعبت تركيا أدوارا سلبية في سوريا تجعلها لا تختلف عن ممارسة النهج الإيراني الذي يتمدد في الشام بحجة دعم النظام السوري ومحاربة المجموعات المتطرفة. بينما لدى الإيرانيين أهداف أخرى. وبالمثل كان الدور التركي حريصا على تسويق كاذب للصورة الإعلامية، بدليل حرص أردوغان في كل حواراته التلفزيونية على التذكير بالدور التركي في إيواء اللاجئين السوريين، في حين أن تركيا كانت مجرد محطة عبور للسوريين الذي توزعوا بين دول أوروبا. ومن خلال أيديولوجيا الإخوان المسلمين التي قام أردوغان بتوطينها بشكل جذري في الساحة التركية، عمل على موازنة علاقات تركيا الخارجية بناء على تفضيل الإخوان وصداقاتهم ومصالحهم، ونعني التنظيم الدولي الذي يتحرك عبر أجندة محددة، ويتخذ من تركيا والمملكة المتحدة قاعدتين لتجميع صفوف التنظيم بعد الفرار الجماعي لإخوان مصر منذ انهيار حكم الرئيس السابق محمد مرسي. ومع مرور الوقت تخسر تركيا حليفاً قديماً أو أكثر. بل إن تموضع السياسة التركية على المستويين الإقليمي والدولي يحدث وفقاً لأجندة إخوانية تضحي بسمعة تركيا القديمة، وتنسج خيوط تركيا إخوانية جديدة، بحيث لم يعد لتركيا العلمانية كما كنّا نعرفها أي ملامح في العلاقات الخارجية، لأنها أصبحت تتحرك في المشهد السياسي الخارجي بما يتواءم مع الخطاب التحريضي للإخوان والمجموعات المتحالفة معهم تحت مسميات متعددة، بما فيها الفصائل الإرهابية التي تقوم بالتنظير لتخريب السلم الأهلي في الدول العربية المستقرة. والسؤال الذي يطرح نفسه باستمرار ونحن نتابع السقوط التركي والعزلة المتدرجة، مقابل الإصرار على تبنّي سياسة تركية خارجية متطرفة، بحيث لا يبقى أمامنا سوى التساؤل بحيرة واستغراب، كيف توحدت النزعة النرجسية لدى أردوغان مع المشروع الإخواني الحالم بالهيمنة والتمكين؟ إذ لا بد أن أحد الطرفين يخدع الآخر. والأرجح أن الإخوان هم الذين يخدعون أردوغان ويغازلون طموحه بالزعامة الإسلامية السلطانية، ويصفقون للهالة الكاذبة التي يعيش في أجوائها، بينما يتركز طموح المجموعات الإخوانية الهاربة في تركيا في أن تبقى قاعدة الإخوان في تركيا حاضنة آمنة ومنصة فاعلة لاستقطاب المزيد من المغامرين والحالمين بالتمكين. لقد خسرت تركيا شخصيتها الاعتبارية كدولة من المفترض أن تكون سياستها الخارجية انعكاسا لمصالح الشعب التركي، وليس تعبيرا عن مصالح مجموعات إخوانية هاربة من بلدانها وفاشلة في توطين نهجها داخل أوطانها التي لفظتها كما يلفظ الجسم السليم السموم من داخله. وكلما مرّ الوقت تستسلم تركيا أكثر للأجندة الإخوانية. ومقابل خسارة العلاقات الطبيعية مع دول الخليج العربي على سبيل المثال، سوف يكتشف المعارضون الأتراك أن حكومة بلادهم تورطهم في إيواء مجموعات إرهابية، يخسرون بسببها العلاقات المثمرة مع دول لها ثقلها في العالم، مقابل ثمن بخس لا يتعدى حصول أردوغان على من يرفعون صوره ويوهمونه بأنه قد أصبح خليفة بني عثمان الجديد. وكلما بقي خيط رفيع يحمي العلاقات الخليجية التركية، لا تتورع السلطة التركية الحالية في العمل بدأب على قطع آخر الصلات. ورغم معرفة أنقرة بحساسية قيامها بإيواء المتطرفين وذيولهم الإعلامية، إلا أنها تسبح عكس التيار وتمارس السياسة بمنطق لا يتناسب مع الدبلوماسية الدولية التي ترفع من شأن العلاقات بين الدول وتجعلها أرقى من الانحياز للمجموعات المتطرفة. وكما خسرت تركيا علاقاتها مع الولايات المتحدة، تهرول كل يوم باتجاه قطع الشعرة الأخيرة التي تربطها مع دول أخرى. لدرجة أن المتابع أصبح يتوقع أن يكون قطع العلاقات بين بعض دول الخليج وتركيا وارداً في أي لحظة. وخاصة أن تركيا تمادت كثيراً في استثمار هلع وخوف قطر التي سارعت إلى تحويلها إلى حليف عسكري يخترق الأمن الإقليمي لمنطقة الخليج من أجل سد مخاوف المرتبكين في الدوحة والعاجزين عن فتح جسور التفاهم مع محيطهم الخليجي. وبمناسبة أزمة قطر مع نفسها ومع محيطها الخليجي وقيامها باستدعاء تركيا إلى الخليج، هناك تشابه كبير بين الدوحة وأنقرة، من زاوية عيش الطرفين داخل قوقعة الأوهام السياسية الذاتية. فكلاهما، تركيا وقطر، تعتقدان أن إيواء ودعم مجموعات الإخوان بالمال والمنصات الإعلامية قد يخدمهما في المستقبل، وهذا غير صحيح، بالقياس إلى تاريخ الإخوان الذين يعتبرون كل ما في طريقهم أدوات لخدمتهم في سبيل الوصول إلى مرحلة التمكين والسيطرة. إن توقعات انهيار العلاقات الخليجية التركية والدخول في قطيعة أشمل تنطلق من مؤشرات الأداء التركي المنهمك في توتير علاقات تركيا الإقليمية والدولية. ويبدو أن الساحة التركية تمر بمرحلة صمت وترقب بهدف توريط أردوغان أكثر في المسار الخاطئ الذي يمضي فيه منذ سنوات. يبدو أن هذا الأسلوب هو الطريق الوحيد لدى الأتراك لدفع أردوغان إلى أعماق النفق المظلم الذي يسير فيه، وخاصة أنه لم يعد يصغي إلى أحد بما في ذلك من كانوا يوصفون بالحكماء في حزب العدالة والتنمية، بل قام بالتخلص منهم وتهميشهم ودفعهم إلى الظل. عندما تتوحد أزمات تركيا الداخلية والخارجية مع أزمات أردوغان نفسه، وعندما تصبح الحالة السلطانية العثمانية المتحكم الأول بمسار السياسة التركية في الوقت الراهن، يمكن توقع مآلات المستقبل وطبيعة العلاقات والأزمات التركية المستقبلية بما مضى من أحداث وردود أفعال وأساليب أردوغانية، لأن العالم لم يعد يتعامل مع سياسة تركية مؤسسية واضحة، بل يتعامل مع زعامة متورمة ترتهن لمشاعر ناتجة عن الولع بتصفيق مجموعات إخوانية تحيط برئيس دولة كان من المفترض أن تكون سياستها أكثر عقلانية في المنطقة. وضع أردوغان نفسه في تناقضات حتى مع تصريحات سابقة كان يغازل فيها الشعب التركي من خلال تمجيد شخصية أتاتورك، بينما يمضي عمليا في تكريس سياسة مناقضة لعلمانية أتاتورك ونهجه الذي كان بعيدا عن الخضوع للإسلام السياسي. لذلك يرى المحللون والمتابعون لأداء أردوغان أن السنوات الماضية راكمت تجارب ومعطيات يمكن من خلالها الحكم بسهولة على أسلوب الرجل، بحيث يمكن التنبؤ بسهولة بردود أفعاله ومواقفه التي لا تحتكم إلى أطر مؤسسية، بقدر ما يكون دافعها ومنطلقها شخصية أردوغان وتطلعاته وما يعتقد أنه كفيل بحماية الهالة التي يحيط نفسه بها. بمعنى أن مواقف وتحركات أردوغان تتمحور بشدة حول كل ما يحقق مصلحته ويلمع صورته التي يريدها أن تظل في واجهة المشهد التركي. وعندما يقوم بتغيير مواقفه والتراجع عن تصريحات سابقة يكون التراجع حاملا لتناقضات ومؤكدا على البعد الدعائي المنافق. وأبرز مثال على ذلك حديثه على خلفية انهيار قيمة العملة التركية عندما توجه بالخطاب إلى الشعب التركي وطالبه بالتقشف، في حين أن أردوغان مستمر في إنفاق مبالغ باهظة على قصوره. وكمثال أيضاً على فوضوية وعبثية السياسة الخارجية التركية وتدخلاتها الإقليمية، يتذكر الجميع عبث إيران وجنونها الطائفي خارج حدودها، لكن الإخوان وأدواتهم الإعلامية يخفون ممارسات تركيا ولا يتحدثون عن نهج أردوغان العبثي في الساحة السورية، رغم أنه يسير على خطى إيران ويتحرك برافعة أيديولوجية إسلامية لنشر فكر الإخوان في شمال سوريا، حيث قام مؤخرا بتكليف رئاسة الشؤون الدينية التركية بالعمل الميداني عبر مرشدين دينيين، تحت اسم “ديانت”، للعب دور مشبوه في سوريا وترسيخ دور تركيا الأيديولوجي بعد تدخلها العسكري المباشر في بعض المناطق السورية.
مشاركة :