أن يهزم الشاعر المرض وتهزمه الحرب في آن معا، هذا هو الملخص النهائي لآخر صفحات الحياة في تاريخ الشاعر السوري إبراهيم الجرادي الذي توفي قبل أيام ملتجئا للموت في نهاية الأمر، حين عجز عن إيجاد حياة في بلاده التي سقطت في وحل الحرب والقهر والدمار، ومدينته التي تلوذ بنهر الفرات، والتي أكلتها الرايات السوداء واستباحتها كل الأيادي الملطخة بدماء أبنائها، لتحرمه حتى من التفكير بالعودة والموت في مسقط رأسه. ولد الجرادي سنة 1951 في قريته النائية “بندرخان” قرب الرقة التي لم يبق منها سوى الأنقاض الشاهدة على الحرب. قرية بعيدة عن أي أجواء ثقافية، تلقى تعليمه الأولي فيها، قبل أن يحمله قدر العائلة إلى الرقة حيث كان قد أُسس على حب الاطلاع والقراءة عبر ما حفظه الأخ الأكبر له من وريقات لشعر جاهلي قديم، يتذكر فضلها الشاعر الجرادي في الكثير من المناسبات، مؤكدا أنها كانت سببا في تعلقه بهذا الشيء الجميل الذي يسمى شعرا. كان هذا الانتقال مفتاح درب طويل للجرادي، قبل أن ينتقل إلى دمشق لاستكمال تعليمه الجامعي ثم يرسل مبتعثا إلى الاتحاد السوفيتي السابق عن طريق الحزب الشيوعي الذي انتسب إليه، ليعود بعد ذلك إلى سوريا ويعمل محررا أدبيا في إحدى صحفها، قبل أن تجبره ضغوط السياسة والمجتمع، الذي تغير عقب انقلاب حافظ الأسد سنة 1970 وسنوات الثمانين القاسية على سوريا، على اختيار اليمن كمقر له، حيث عمل فيه أستاذا للأدب المقارن في الجامعات اليمنية. ليس من السهل أن تأتي لمجتمع لا يقرأ بكل ما تحمله من ثقافتك لتؤثر به، خصوصا إذا كان ذلك المجتمع خارجا من هزيمة وجدانية وحربية أثرت على نفسيته العامة المليئة بالمشكلات المتعلقة بالفقر والتهميش والتجهيل الذي عانت منه معظم مدن وقرى شرق سوريا. حرمان سياسي من السينما شعر الجرادي يحاول أن يروض المدن التي زارها صاحبه، الذي كان رغم رومانسيته الشديدة التي نبتت في شعره، قاسيا في مفرداته، شديدا في تعبيراته ومجازاته شعر الجرادي يحاول أن يروض المدن التي زارها صاحبه، الذي كان رغم رومانسيته الشديدة التي نبتت في شعره، قاسيا في مفرداته، شديدا في تعبيراته ومجازاته هناك في ريف الرقة، وجد الجرادي ومجموعة من مثقفي مدينته الشباب ضرورة الخروج من عباءة هزيمة يونيو بثورة على المتوارث من قوانين العشائر وسطوة القبيلة، فكانت “جماعة ثورة الحرف” المؤسسة سنة 1968، التي حاول أعضاؤها إيجاد ملاذ لهم بين الكتب والكتابة، حيث يذكر في إحدى مقابلاته أن “نهم القراءة وحده ما أنقذ حياتهم القلقة في تلك البادية المنسية، حين أصبح تمرد ألبير كامو تمردا شخصيا يخصهم في الدرجة نفسها، وهم أصحاب الهزيمة النكراء في حزيران، الجيل المشحون بالرفض والتمرد وشهوة الهدم”. الهدم الذي أدى به إلى قصيدته الأولى “شطحات البسطامي” التي نشرت لاحقا في سنة 1971 في مجلة “الآداب” اللبنانية والتي حاول فيها تغطية ما حمله من هواجس سياسية ومجتمعية وفكرية عديدة من خلال شخصية البسطامي الصوفية التي عرفت بشطحاتها الخيالية البعيدة عن الواقع، وفي بعض ما يقول فيها: “فحسبي آهِ من نفسي الجرادي كان يعيش متاهة قضايا المجتمع العربي المتراكمة وتؤرقه الهزائم المتواترة الجرادي كان يعيش متاهة قضايا المجتمع العربي المتراكمة وتؤرقه الهزائم المتواترة ولكني سأرميهمْ.. حجارةُ حقدي السجيلْ .. أبابيلا أشيل الخيل والراياتْ سأصْليهمْ، وأجعل وهجهم كالليلْ وأرسم في وجوههمو حكايا الويلْ وأقذفهم.. أنا الطوفانُ ماذا بعد هذا القحط ماذا بعد غير السيلْ؟”. ولم تكن شيوعية الجرادي لتمنعه عن التمسك بعروبته ونزعته اتجاهها وهو الذي تمسك طويلا بها لغة وحسا وقضية كما كان يؤكد في معظم لقاءاته الصحافية بقوله “أنا عربي وهذه الصفة ليست عابرة أو طارئة”. كان يعيش متاهة قضايا المجتمع العربي المتراكمة، تؤرقه الهزائم المتواترة، ويخيفه المستقبل الغامض، وقد كرس الكثير من حياته لقضايا العروبة التي كانت أولها فلسطين، التي كانت هاجسا ثقافيا متعبا للجرادي وأقرانه من المثقفين نتيجة الشعور بالهزيمة المرة، وخصوصية الشاعر الذي كان لا بد من أن يبدأ حربه من شعره لكي يشحن المجتمع ليخوض حربه وتمرده، تمرد جعل الجرادي يقول في قصيدته “الأرض إذ تستفز الخيانات”: “فلسطينُ ليست هتافاً فلسطين كلُّ الرعيَهْ. وفي القلب حيثُ العذابُ اليساريُّ يمنحُ بعضَ الرفاقِ التمادي الخياناتُ ترقصُ تلتف حولَ المناشير هذي المناشيرُ ما قاسمت وطناً لم تكن شيوعية الجرادي لتمنعه عن التمسك بعروبته ونزعته اتجاهها لم تكن شيوعية الجرادي لتمنعه عن التمسك بعروبته ونزعته اتجاهها بالعذابِ ولا بادلتْ حزْنَه بالندى. وهذي المناشيرُ تستبدلُ، اليومَ، وهجَ الرصاصِ بتلكَ الإذاعاتِ حيثُ الجنودُ يرونَ الكآبةَ والموتَ في سرِّها المستباح تجيءُ المناشيرُ صُفْراً تجيءُ المناشيرُ صِفْراً تجيءُ المناشيرُ ردَّهْ”. لاحقا سيكون التمرد على الحزب ذاته، الذي انقسم ما بين مؤيد لسلطة حافظ الأسد ومناوئ لها، الأمر الذي جعل الجرادي يثور على حزبه ويهجو زعيم الحزب خالد بكداش، وكان الثمن غاليا بفصله من معهد السينما في موسكو الذي ابتعث إليه عبر الحزب، لينتقل إلى دراسة الأدب المقارن في معهد “كراسنودار” حيث كان الطريق الجديد الذي مهد له الحصول على الدكتوراه من موسكو ومن ثم العمل في تدريس الأدب المقارن في جامعة صنعاء في اليمن حيث قضى معظم حياته حتى عام 2012 حين عاد إلى دمشق، محملا بمآسي الحرب اليمنية والمرض العضال ووجع سوري لا ينتهي. ابن بيئته القاسية لم تخلع مدن العمران من دمشق وما بعدها الجرادي من بيئته الريفية التي خرج منها، بل على العكس حاول أن يروض المدن التي زارها فكان رغم رومانسيته الشديدة التي نبتت في شعره، قاسيا في مفرداته شديدا في تعبيراته ومجازاته التي غلب عليها طابع البادية التي صبغت شعر الجرادي بمفرداتها بعد أن طوعها لتصبح لغته الشعرية التي استطاع أن يدخلها في قلوب قرائه، ومن ذاك ما يقوله في قصيدته “الفرح المذعور” من مجموعة “أجزاء إبراهيم خليل الجرادي المبعثرة”: “وحين يقبل القرويون إلى العاصمة تزدهر بهم أرصفة المدينة وتكثر الكلمات والأغاني ينتشرون في حقول المدينة وهم يبكون القرى العاشقة منهم من يصطاد الذباب ومنهم من يصطاد الناس ليسوا حطبا .. وليسوا نارا فيض من هذا وذاك”. الجرادي سعى طيلة حياته إلى أن يكون متفردا بلونه الشعري الخاص، الخارج عن المألوف، المحطم للموروثات الشعرية التي تشكلت قبله أو التي عايشها، حيث كان مبتكرا إلى حد ما خصوصا في مجموعته “دع الموتى يدفنون موتاهم” والتي رسم فيها الجرادي شكلا من أشكال الحوارية الشعرية التي غلبت معظم قصائده بداية من قصيدته الأساسية في المجموعة “نجمة الإسفلت” التي أهداها لمحمود درويش، مرورا بقصيدة “فسحات شعرية”. موكب من رذاذ المودة كتابه “محمود درويش ينهض” ذهاب في رحلة أخرى وفضاء أوسع يوظفه الجرادي على استعارات لغوية درويشية، وكأنها رثاء لشاعر كبير كان قد تأثر به كتابه “محمود درويش ينهض” ذهاب في رحلة أخرى وفضاء أوسع يوظفه الجرادي على استعارات لغوية درويشية، وكأنها رثاء لشاعر كبير كان قد تأثر به تلك القصائد وغيرها التي غلب عليها الطابع الخاص الوجداني المتفرد بما يخفيه الجرادي في نفسه، والذي تحول إلى حواريات ذاتية وحوارات متخيلة مع الآخرين، ناهيك عن إيقاعه الشعري الذي مزج فيه بين شعر التفعيلة والنثر محاولا الحفاظ على موروث الشعر العربي الذي تأثر به دوما، فضلا عن التجديد في القصيدة من خلال ترسيخ النثر كحالة شعرية متأصلة، وهذا ما كان في قصيدته “لست محظوظا لكي أغفو على وتر وناي” والتي يقول فيها: “لستُ محظوظا لأنّيْ كان لا بد للجرادي من أن يبدأ حربه من شعره لكي يشحن المجتمع ليخوض حربه وتمرده كان لا بد للجرادي من أن يبدأ حربه من شعره لكي يشحن المجتمع ليخوض حربه وتمرده كلّما أسْلَمْتُ أسراري لأهلي ساءَ ظني غادروني قبلَ ميعادِ الأسى واستدركوني بالعذاباتِ وصوتُ اللهِ فيَّ كلما ملَّحَني الدَمعُ وفاضتْ في عيوني شهوةُ التابوتِ أهلي اسْتَعْذَبوني وأنا أمشي إلى نعشي وتتبعني خُطايْ لست محظوظا لكي أغفو على وترٍ ونايْ”. كان لا بد لقصيدة الجرادي من الذهاب في رحلة أخرى وفضاء أوسع شهدته مجموعته الشعرية “محمود درويش ينهض” والتي وظفها قصدا على استعارات لغوية درويشية، وكأنها رثاء لشاعر كبير كان قد تأثر به الجرادي، وافتقد لقصيدته على حين غرة، فما كان منه إلا أن صهر نفسه في درويشه الذي أحب، ليكتب بلغته وشعريته ونزقه الذي عرف به دوما، لتكون هذه المجموعة رسما درويشيا على طريقة الجرادي الشعرية والتي كان منها قصيدة بنفس عنوان المجموعة يقول فيها الشاعر إبراهيم الجرادي “الليلُ أعمىْ والصباحُ جنازةُ والموتُ معتدلٌ هنا كالطقس، والأرضُ تحتملُ احتلالا ثانيا والِشعرُ يستوفي شروطَ عدوهِ. هم يطلبونَ الآنَ، أن يستأثرَ الشعراءُ بالأطلال أن يشتدَّ عودُ اليأسْ؟ لا بأسْ. ستَظَلَُّ في خبزِ القصيدةِ مِلحَهُ ونظلُّ في أنشودةِ الراعي وفي أسماءِ من غابوا وما عادوا. ومن عادوا إلى ميراثهم كالقشِ يحترقونَ من عُود الثقابِ التالفِ المكسورْ. ومن أسَروا خفاَفا نحو مقتلِهم ومن طافوا مع الأسلافِ جوّابينَ أرضَ اللهِ، من ألفوا بقايا الظــنِّ محمولينَ في ليلِ الفراشةِ نحو شمعتِها ومَنْ قدْ أدركوا الأعداءَ، أيضا، في ثياب الأهلْ”. لم يكن الجرادي متوحدا مع الشعر لدرجة يمنعه فيها من الخوض في المجالات الأدبية الأخرى، لا سيما الترجمة والنقد والتدريس الأكاديمي الأدبي التي برع في كل منها على حدة، وكانت أعماله في كل المجالات شاهدة على ذلك، حيث اشتغل بالتدريس لمادة الأدب المقارن في جامعة صنعاء لسنوات طويلة عاشها في اليمن، واستغل لغته التي اكتسبها خلال ابتعاثه في روسيا ليكون أحد أهم مترجمي الأدب الروسي، فضلا عن الشعر الذي لم يتوقف عن كتابته يوما، فكان له العديد من المؤلفات في شتى المجالات وهي “أجزاء إبراهيم الجرادي المبعثرة”، “رجل يستحم بامرأة”، “الدم ليس أحمر”، “شهوة الضد”، “موكب من رذاذ المودة والشبهات”، “شعراء وقصائد”، “أوجاع رسول حمزاتوف”، “دراسات في أدب عبدالسلام العجيلي”، “الأشكال في الشعرين الروسي والعربي”، “عويل الحواس”، “الحداثة المتوازنة”، “مسامير في خشب التوابيت”، “دع الموتى يدفنون موتاهم” و“محمود درويش ينهض”. توفي الجرادي في التاسع والعشرين من سبتمبر الماضي عن عمر ناهز 67 عاما، مغادرا حياة كانت مليئة بما وصفه في أحد حواراته بأنها “تمارين على معايشة الألم”، ذاك الذي رافقه في الكثير من سنين عمره، والذي تأصل في السنوات الأخيرة على بلاده التي ربما لم يكن ليتصور يوما أن تصبح حطاما لا يستطيع حتى النظر إليه، فيكتفي برثائه بقصيدته الأخيرة عن الرقة مدينته الأثيرة. “يا نخيلَ الشطِ والصمتِ ويا موسمَ حزني. لم يكن الجرادي متوحدا مع الشعر لدرجة يمنعه فيها من الخوض في المجالات الأدبية الأخرى لم يكن الجرادي متوحدا مع الشعر لدرجة يمنعه فيها من الخوض في المجالات الأدبية الأخرى هلْ تعرفتِ على العاشقِ والمنفيِّ والمقتولِ والباكي أنا؟ هل تعرفتِ على مَنْ مارسَ النزفَ بكلِ الطرقاتِ؟ شاعرٍ يسْتلُّ من صدغيْهِ أفكارا شهيّةْ ويصلي عددَ الرمل إلى عينينِ كالبحرِ انثريني.. فأنا أهواكِ.. أهواكِ ولو سوّيتِ من جسمي خيولا ومآتمْ. وأنا أهواكَ.. أهواكِ وأنتِ الخائِنَةْ”. رحل إبراهيم الجرادي بعد أن رأى كيف احتل تنظيم داعش الإرهابي مدينته الرقة، وأجبر قبل موته على مغادرة صنعاء العاصمة التي أحبها بعد أن احتلها الحوثي. فكان طريد الاحتلالات التي لم يحتملها عالمه الشعري العميق.
مشاركة :