«إليكم اختباراً للصدق والمعايير المزدوجة: ماذا كان سيحدث لو أن إسرائيل استخدمت سلاحاً كيماوياً؟ هل كانت الولايات المتحدة ستهاجمها؟ وماذا كان سيحدث لو أن الولايات المتحدة نفسها هي التي فعلت ذلك؟ استعملت إسرائيل من قبل سلاحاً مُحرّماً وِفْقَ المواثيق الدوليّة، هو الفوسفور الأبيض، ضد مواطنين مدنيين في غزة، واستعملت كذلك القنابل العنقودية في لبنان، ولم يتحرك العالم. ولا حاجة للتطرق إلى أسلحة الدمار الشامل التي استعملتها الولايات المتحدة استعمالاً وحشيّاً، وأقصد القنبلتين الذريّتين على اليابان وقنابل النابالم على فيتنام. إن ١٠٠ ألف قتيل في (سورية) لم يدفعوا العالم للتحرك قبلاً، بينما يدفع التقرير عن ١٤٠٠ قتيل بالسلاح الكيماوي، إلى تحرّك جيش الخلاص العالمي. ولا يمكن أي شخص أيضاً أن يعتقد بأن الولايات المتحدة هي «قوة عظمى أخلاقية»... إنها الدولة المسؤولة عن أكبر مقدار من سفك الدماء منذ الحرب العالمية الثانية. هناك إحصاءات تشير إلى سقوط ٨ ملايين قتيل على يديها في جنوب شرقي آسيا وأميركا الجنوبية وأفغانستان والعراق، لذلك لا يمكن أن تُعتبر «قوة عظمى أخلاقية». والولايات المتحدة التي لم تُعاقب أبداً على أكاذيب العراق ومئات الآلاف من القتلى الذين سقطوا عشوائيّاً في تلك الحرب، توشك أن تبدأ حرباً مماثلة. من الأفضل أن نصغي إلى كلام الراهبة من سورية مريم التي اشتكت في دير في جبال القدس نزلت فيه ضيفة في طريق عودتها من ماليزيا إلى سورية، من التشويه في وسائل الإعلام العالمية. فقد وصفت مريم صورة تختلف عن الصور المتداولة. إذ تحدثت عن ١٥٠ ألف مجاهد أجنبي في سورية هم المسؤولون عن أكثر الأعمال وحشيّة. وقالت إن نظام الأسد هو الوحيد الذي يمكن أن يصدّهم، والشيء الوحيد الذي على العالم فعله هو أن يوقِف تدفّقهم وتسليحهم. «لا أفهم ما الذي يريده العالم؟ هل يريد أن يساعد «القاعدة»؟ هل يريد أن ينشئ دولة جهادية في سورية؟». قالت هذه الراهبة التي يقع ديرها على الطريق بين دمشق وحمص، وهي على يقين من أن الهجوم الأميركي سيقوي الجهاديين وحدهم. «أهذا ما يريده العالم؟ أفغانستان أخرى؟». ليس هذا اقتباساً لأحد كتّاب «المُمانعة» وفق وصف شائع عند أيديولوجيّي «مُمانعي المُمانعة»، بل إنه جزء من مقال للصحافي الإسرائيلي جدعون ليفي، الكاتب في صحيفة «هآرتس». والأهم أنه نموذج من نقاشات راجت إسرائيلياً إبّان التلويح بضربة عسكريّة أميركية عقابية لدمشق. وتعطي الكلمات نموذجاً عن مدى اتساع هوامش النقاش في تلك الدولة، في مقابل ضيق آفاقه في معظم الدول العربية، بل بين معظم مثقّفي شعوبها. لقد رافق التلويح بالضربة نقاشات في الغرب، لم يحظ كثير منها باهتمام عربي كافٍ. ففي فرنسا أظهرت الاستطلاعات معارضة واسعة للضربة العسكرية. وفي اليسار الفرنسي، فئة تتصرف تحت تأنيب الضمير على الماضي الاستعماري لهذا البلد. يتشرّب هذا التيار أفكاره من توليفات يساريّة متنوّعة. لنتذكر مثلاً أن مفكراً يسارياً غير تقليدي كرولان بارت، ابتدأ تيار نقده الواسع للثقافة السائدة في فرنسا ما بعد الحرب العالميّة الثانية، بنقد غلاف لمجلة «باري ماتش» يظهر فيه جندي فرنسيّ أفريقي الجلد والملامح، وهو يؤدي التحيّة للعلم الفرنسيّ. ورأى بارت في الأمر محاولة بائسة من الجمهورية للتصالح مع ماضيها الاستعماري عبر الإيحاء بقبول أبناء المستعمرات له، بل ولائهم للدولة المُستَعمِرَة! يحمل كثيرٌ من أطياف اليسار الفرنسيّ نوعاً من الاعتذاريّة تجاه الإسلام والعرب، فيبدو كردّ فعل على ما فعلته دول الغرب من احتلالات متكررة لبلاد العرب والمسلمين، بل محاولتها تغيير هويّة هذه البلاد كما حدث في الجزائر مثلاً. وبمعنى مجازي، يبدو لسان حال اعتذاريي اليسار الفرنسيّ كأنه يقول إن الشعب السوري يدفع في العقد الثاني من القرن الـ21، ثمناً متأخرّاً عن احتلال السودان في القرن التاسع عشر! ولا يقتصر أمر معارضة الضربة العسكرية العقابية للأسد، على اعتذاريّي اليسار الفرنسيّ. إذ يتحدث كاتب كمارك فانديبيت، وهو جمهوري فرنسيّ متحمّس للاستقلاليّة الفرنسيّة، عن استراتيجية الفوضى التي تتأتى من ضربة عسكرية أميركية لسورية. ويجاريه زميل له في «أنفيستيغاسيون» بأن يكرز ببشارة سقوط النظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدّة في سياق الضربة على سورية، بل يجعل هذا السقوط محتّماً سواء حصلت تلك الضربة أم لا، بل سواء بقي الأسد أم أطيح! ولم يتأخر الصحافي جان بريكمونت في معاكسة هذا النقاش، إذ نشر مقالاً مطوّلاً تناقلته مجموعة من المواقع اليمينية والمعتدلة الفرنسيّة، انتقد فيه «الآمال المحبطة باستمرار لهذا اليسار البائس الذي لم يعرف أين يكون الموقف فعليّاً»، في قضايا امتدت من حروب صربيا وكوسوفو وصولاً إلى رفض الضربة العسكرية للأسد، بأثر من «استناد هذا اليسار إلى رغبات في الصراع مع الإمبريالية... يأخذها كأنها حقائق فعليّة». على الجانب الأميركي، لا يصعب إيجاد المقولات المشتركة في النقاش العام عن الضربة الأميركية. لقد سبق لأميركا أن انزلقت من الضربات المحدودة إلى التدخل العسكري الواسع في العراق. وسبق أن ساهمت في تحرير شعوب إسلامية (أفغانستان) وعربية (العراق وليبيا) لتجد نفسها متورّطة بصراعات اعتُبِرَت فيها قوة احتلال مكروهة، ما يفسر بروز حادث اغتيال السفير كريستوفر ستيفنز في بنغازي في النقاشات الأميركية. وتتقاطع تيارات متعارضة في المؤسسة الأميركية عند ملاحظة صعود قوة تنظميات إسلاميّة متطرّفة في المعارضة السوريّة. ولعل هذا التقاطع يفسر المرارة التي ظهرت في قول الرئيس باراك أوباما إن كثيرين ممن كانوا يحضّونه على ضرب الأسد، عارضوا الضربة العسكرية المحدودة لهذا النظام! وربما لهذه الأسباب، تحوّل النقاش الأميركي حول الضربة إلى نقــــاش عن أوباما نفسه، بحيث إن عبارة «إرث أوباما» بـــاتت متداولة أميركياً، بل لعل نفيّ أوباما لهذا الأمر، عبر قوله «صدقيتي ليست على الــمحك»، إشارة معكوسة وقويّة للأمر ذاته.
مشاركة :