لا تنكر أوساط اقتصادية «حراجة» الوضع الاقتصادي في لبنان، لكنها لا تصل في مخاوفها إلى حد ما يُشاع عن «انهيار»، واصفة هذه التكهنات بـ «المُبالغ بها». وبات معروفاً أن التأزم السياسي على خلفية الكباش على المحاصصة الذي يؤخر تشكيل الحكومة الموعودة منذ أشهر، هو الذي يزيد من «دقة» هذا الوضع ويعطّل انطلاق ورشة الإصلاحات التي وعد بها لبنان في مؤتمر «سيدر»، إذ لم تغفل هذه الأوساط تداعيات كل ذلك على «ثقة» المجتمع الدولي في لبنان. ويوافق الخبير الاقتصادي كمال حمدان في حديث إلى «الحياة»، على توصيف الوضع الاقتصادي والنقدي بـ «الدقيق»، مؤكداً أن تشكيل الحكومة «لم يعد كافياً لإحداث صدمة إيجابية»، إذ يجب على الوزراء في الحكومة العتيدة، أن «يدركوا ضرورة الشروع فوراً بالإصلاحات الموعودة». ويربط حمدان توصيف الوضع بـ «الدقيق»، في ضوء مؤشرات النشاط الاقتصادي المتمثلة بالنمو والتصدير والاستثمار والحركة التجارية. إذ أوضح أن النمو «لا يتعدى 2 في المئة وهو المعدل المعلن منذ بداية السنة، ولا يمكن التكهن بوجهته حتى نهايتها»، فيما الصادرات «تتقلّص»، والاستثمار الحكومي «شبه معدوم ويقتصر على ما ينفّذه مجلس الإنماء والإعمار من مشاريع لا تتجاوز قيمتها مئات ملايين الدولارات». أما النشاط التجاري، فيسجل «تراجعاً نتيجة تدني المبيعات ومتوسط قيمة ما ينفقه المستهلك، وانعكس ذلك توقف عمل مؤسسات من دون أن يستدعي ذلك الهلع، لأن ما يُشاع عن حركة الإقفال مُبالغ فيه»، معتبراً أن «في مقابل إقفال بعض المؤسسات تفتح أخرى، وهي حال طبيعية». ورأى حمدان أن «الوضع المالي هو الذي يشكل مصدر القلق الأكبر، خلافاً لكل التعهدات الواردة في موازنة هذه السنة وعام 2017، التي كانت تستهدف خفض العجز». إذ لفت إلى «زيادة ملحوظة وغير مبررة في الإنفاق العام في النصف الأول من السنة، وربما يرتبط جزء من هذا الارتفاع بصعود أسعار النفط الذي انعكس رفعاً في قيمة التحويلات إلى مؤسسة كهرباء لبنان، في مقابل بقاء التعرفة عند حدودها». وذكّر في هذا الإطار، بأن «البند الأول من مؤتمر «سيدر» المتعلق بضبط العجز المالي، ينص على إعادة النظر في تركيبة التعرفة». لكن الدولة «لا يمكنها تعديل التعرفة في حال لم تعِد المواطن بتأمين التيار الكهربائي 24 ساعة، إذ يستلزم هذا الوعد إعلان خطة وبدء تنفيذها». وكشف حمدان أن «النفقات العامة زادت 22 في المئة، فيما يكاد يكون نمو الإيرادات معدوماً، لا بل تشير بعض التقديرات إلى هبوطه بفعل تدني إيرادات الرسوم الجمركية والعقارية بسبب تراجع الحركة الاقتصادية». ولم يغفل أيضاً «ملفات مفتوحة ومتروكة وترتّب إنفاقاً ومنها سلسلة رواتب أساتذة التعليم الخاص والدرجات، ومطالب العاملين في القطاع العام بتصحيح أوضاعهم، من دون أن ننسى المستحقات المتأخرة المتوجبة على الدولة للمستشفيات المتعاقدة مع وزارة الصحة». وفي ضوء هذا الوضع المالي، نبّه حمدان إلى أن «العجز تجاوز نسبة 10 في المئة من الناتج المحلي خلافاً لكل التوقعات»، محذّراً إلى أن هذا المستوى يشكل «خطاً أحمر». وبالنسبة إلى الوضع النقدي، رأى حمدان أن «من الطبيعي أن ينعكس المشهد المالي والاقتصادي قلقاً لدى المواطنين وميلاً لديهم لتحويل مدخراتهم بالليرة إلى الدولار». لكن في مقابل هذا القلق، أقرّ بأن «لا خروج للأموال من لبنان»، مشيراً إلى «حالات إفرادية في هذا المجال ولا تشكل ظاهرة»، موضحاً أن المصارف والمصرف المركزي «اتخذوا تدابير للتثبت من كل حالة على حدة والطلب من الزبائن بإبراز إثباتات لتبرير أسباب هذه التحويلات، مثل شراء عقار أو تحويل أقساط جامعية». وما يعزّز رغبة المودعين اللبنانيين في الحفاظ على ودائعهم في المصارف اللبنانية، هو «معدلات الفائدة على المدخرات بالدولار وهي تتراوح بين 5 و6 في المئة في مقابل صفر في الخارج فضلاً عما يفرضه بعض الدول من رسم على الوديعة، أما الفائدة على الليرة فهي تتراوح بين 10 و12 و15 في المئة». ولم يغفل حمدان في توصيف الحالة «الحرجة» التي تعكسها العجوزات الخارجية، إذ لاحظ أن الصادرات لم تعد تغطي أكثر من 12 في المئة من الواردات». وهذا يعني برأيه «الحاجة الكبيرة إلى العملة الصعبة لتمويل الواردات». وأشار أيضاً إلى «العجز المتواصل منذ سبع سنوات في ميزان المدفوعات الذي لم يُضبط إلا لفصل أو اثنين خلال العام الماضي، بعد الهندسات المالية المكلفة جداً التي نفّذها مصرف لبنان عام 2016». وعلى رغم دقة الوضع وحراجته، شدد حمدان على أن «الحديث عن سيناريو انهيار قريب مُبالغ فيه كثيراً، ولا يعدو كونه ضغطاً يندرج في إطار التجييش السياسي المتصل بالصراع على المحاصصة في تشكيل الحكومة». وختم: «يجب أن يشرع الوزراء فوراً بالإصلاحات الموعودة والتي تبدأ في النظام الضريبي وتمرّ في إعادة النظر في مستويات الأجور المرتفعة جداً في المناصب العالية في القطاع العام وتصل إلى ما بين 15 ألف دولار و20 ألفاً، في دولة مفلسة، واتخاذ التدابير في حق الموظف غير المنتج، وصولاً إلى وقف المهاترات في ملف الكهرباء واعتماد الحل الناجع والسريع لوقف الهدر الناتج من تمويل العجز فيها».
مشاركة :