باسثنتاء التعبير عن القلق والدعوات إلى إجراء تحقيق سريع في قضية اختفاء جمال خاشقجي، يبدو أن وسائل ضغط الأوروبيين على السعودية تبقى محدودة بسبب المصالح الاقتصادية. فهل يعلو صوت المال على صوت الضمير في قضية خاشقجي؟ انتظرت الحكومات الأوروبية أكثر من أسبوع على اختفاء الكاتب والصحفي السعودي البارز جمال خاشقجي قبل أن تصدر بيانات رسمية حول الحادثة. ففي 14 من تشرين الأول/ أكتوبر 2018 دعا وزراء خارجية ألمانيا وفرنسا وبريطانيا في بيان مشترك السلطات السعودية والتركية إلى "إجراء تحقيق موثوق لمعرفة حقيقة ما حدث وتحديد المسؤولين عن اختفاء جمال خاشقجي وضمان محاسبتهم". وفي اجتماعهم أمس الثلاثاء في أوتاوا الكندية عبر وزراء خارجية مجموعة السبع (فرنسا، ألمانيا، إيطاليا، كندا، اليابان، المملكة المتحدة والولايات المتحدة والممثلة العليا للاتحاد الأوروبي) عن قلقهم الكبير من اختفاء جمال خاشقجي، وشددوا على أن "المسؤولين عن هذا الاختفاء يجب أن يُحاسبوا". وباستثناء هذه البيانات التي تعبر عن القلق وتدعو للتحقيق السريع والشفاف، يطغى التحفظ على الموقف الألماني والأوروبي بشكل عام بخصوص قضية خاشقجي. لقد اختار الأوربيون أسلوب الحذر من التسريبات والشائعات التي تقول بمقتل خاشقجي في القنصلية السعودية في إسطنبول وتورط أجهزة أمنية سعودية في ذلك. وتتفادى تصريحات المسؤولين الأوروبيين الخوض في التأويلات، وتؤكد على ضرورة انتظار نتائج التحقيقات الرسمية. فالأوروبيين، وعلى رأسهم ألمانيا، يجدون أنفسهم في موقف صعب يجعلهم يتفادون لهجة التصعيد اتجاه السعودية بسبب العلاقات الاقتصادية والمصالح التجارية التي تربط بروكسل والرياض. فالتبادل التجاري بين الاتحاد الأوروبي والسعودية يتجاوز 54 مليار يورو وهناك حرص أوروبي مستقبلا على الاستفادة من مشاريع اقتصادية كبيرة في السعودية مثل مشروع نيوم ومشروع الطاقة الشمسية العملاق. قوارب عسكرية ألمانية ترسو في موانئ سعودية لا توجد خطط لفرض عقوبات على الرياض وحتى عند حديثه عن تغيير محتمل للسياسة الأوروبية تجاه السعودية، إذا أثبتت التحقيقات تورطها في قضية خاشقجي، يؤكد مسؤول السياسة الخارجية في حزب المستشارة ميركل، يورغن هارت أنه لا توجد خطط لفرض عقوبات على الرياض، موضحا في حوار مع إذاعة دويتشلاند فونك: "علينا استغلال نفوذنا الاقتصادي حتى تبقى السعودية على مسار يضمن الاستقرار في المنطقة". وترغب أوروبا في تعزيز الاستقرار الاقتصادي السعودية وتراهن عليها في استقرار الوضع العام في الشرق الأوسط، خاصة بعد إشارات التقارب مع إسرائيل. لذلك لا يتوقع الخبير الألماني في قسم الشرق الأوسط بمعهد GIGA توماس غيشتر، أن تُقدم ألمانيا وأوروبا على عقوبات اقتصادية ضد المملكة السعودية في حال إثبات مسؤوليتها في قضية خاشقجي. ويُرجح غيشتر في حواره مع DW عربية أن "تعيد أوروبا تقييمها للسعودية وخاصة نظرتها للأمير محمد بن سلمان الذي يريد تسويق نفسه أمام الغرب كحامل لمشعل التغيير والانفتاح، لكن بعض الوقائع تظهر عكس ذلك". وهو ما أكده أيضا مسؤول السياسة الخارجية في الحزب المسيحي الديمقراطي يورغن هارت عندما قال: "في أذهاننا صورة شديدة التباين للسعودية، خاصة فيما يتعلق بما حدث في قضية خاشقجي في الأيام القليلة الماضية، وما سيظهر في الأيام المقبلة سيكمل تلك الصورة. قد تضطر أوروبا لتصحيح سياساتها تجاه السعودية". ومع تصاعد الأصوات المنتقدة للسعودية في قضية خاشقجي يعود ملف صادرات الأسلحة الألمانية إلى السعودية ليطفو إلى السطح. ففي الفصل الأول فقط من عام 2018 بلغت قيمة صادرات الأسلحة الألمانية إلى السعودية 161 مليون يورو، وذلك رغم تعهد الائتلاف الحكومي الألماني بوقف تزويد المملكة السعودية بالأسلحة بسبب حرب اليمن. وتبرر برلين صادرات الأسلحة الأخيرة إلى السعودية بكونها تتعلق فقط بقوارب مجهزة بأسلحة خفيفة لحماية الموانئ والتهريب ولا يمكن استخدامها لقمع المواطنين أو الاعتداء على الدول المجاورة. انتقادات للموقف الألماني من جهته ينتقد مسؤول العلاقات الخارجية لحزب الخضر بالبرلمان الألماني أوميد نوريبور موقف الحكومة الألمانية في قضية خاشقشي ويصفه بالضعيف. وطالب نوريبور في حوار مع موقع "شبيغل أونلاين" حكومة ميركل "على الأقل بحث الشركات الألمانية سحب مشاركتها في مؤتمر ’دافوس في الصحراء’ الذي سينعقد الأسبوع المقبل في الرياض"، وهو مؤتمر استثماري كبير تحضره كبريات الشركات العالمية. وكانت مديرة صندوق النقد الدولي كريستين لاجارد قد انضمت إلى قائمة متنامية من كبار الشخصيات التي أعلنت أنها لن تحضر المؤتمر، في حين لم يتضح بعد موقف مدير شركة سيمنس الألمانية، جو كيزر. ولحد الآن لم يصدر من الحكومة الألمانية أي توجيه للشركات الألمانية بخصوص المشاركة في مؤتمر "دافوس في الصحراء". عودة الدفء للعلاقات الألمانية السعودية بعد فترة توتر ويبدو أن التطورات الأخيرة في قضية خاشقجي تضع أيضا وزير الخارجية الألماني هايكو ماس في موقف صعب، فبعد أن نجح في عودة الدفء للعلاقات الألمانية السعودية، بعد التوتر الذي شهدته هذه الأخيرة في عهد وزير الخارجية السابق زيغمار غابريل، اضطر ماس إلى تأجيل قراره بشأن زيارة كانت مقررة للرياض إلى حين تقديم السعودية إجابات أكثر وضوحا عن اختفاء خاشقجي. وقال ماس في مؤتمر صحفي في برلين إن "الحكومة الألمانية ترغب في معرفة ما حدث لخاشقجي: وعندما نعلم ذلك، عندها نقرر اتخاذ الموقف الضروري".. وكشف تقرير لموقع "شبيغل أونلاين" أن الحكومة الألمانية "غير مقتنعة" بالمعلومات التي قدمتها الرياض بشأن قضية خاشقجي وتعتبرها بلا مصداقية. وكانت وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي فيديريكا موغيرني، شددت أن الاتحاد الأوروبي يتوقع "الشفافية والوضوح الكامل من السلطات السعودية حول ما حدث لخاشقجي". وباستثناء التعبير عن القلق والدعوة إلى تحقيق واضح وشفاف، يبدو أن وسائل ضغط الأوروبيين على السعودية تبقى محدودة بسبب المصالح الاقتصادية، ليس فقط بالنسبة لألمانيا وحدها بل أيضا لفرنسا وغيرها من الدول الأوروبية. ويكفي أن نذكر أن السعودية ثاني زبون لصناعة السلاح الفرنسية بين 2008 و2017 بمعاملات تجارية بلغت 11.1 مليار يورو. كما ترتبط شركات داسو وتاليس المختصة في الصناعة العسكرية بعقود ضخمة مع المملكة. هشام الدريوش
مشاركة :