«فلنرحم الأتراك!» لبيار لوتي: الكاتب ينكر المجزرة الأرمنيّة

  • 10/18/2018
  • 00:00
  • 10
  • 0
  • 0
news-picture

هناك على الأقل كاتبان غربيان معروفان لم يوفرا جهداً طوال حقبة أساسية من حياتهما في مجال إنكار حدوث المجزرة التركية ضد الأرمن آخر سنوات الحكم العثماني، وكل منهما لأسباب تختلف جذرياً عن الأسباب التي تذرّع بها الآخر، لكن بالقدر نفسه من الحماسة والعنف أحياناً. وهذان الكاتبان هما برنارد لويس، المستشرق الإنكليزي المعروف بنظرته الى العرب التي لم ترض أياً من هؤلاء مقابل تأييده المطلق لتركيا، العثمانية أكثر من الكمالية، وبيار لوتي، الروائي والرحالة الفرنسي الشهير الذي وصل هوسه بعالم الإسلام الى الوقوف أمام الكاميرات عند أوائل القرن العشرين تصوّره بأغرب الأزياء الشرقية، ناهيك بكتابته عشرات النصوص والروايات التي تدور أحداثها في الشرق، لا سيما في تركيا «الغامضة والساحرة» والتي يراها «دائماً على حق»، فإذا انتقد بعض ما فيها انتقده من الداخل ولأسباب دائماً ما بدت واهية و... شخصية. لوتي كان عاشقاً لكل ما هو تركي، بخاصة للمرأة التركية التي كتب عنها واحدة من أجمل رواياته – «آزيادة»- ، ومن هنا نراه ينكر حدوث المجزرة الأرمنية في ذلك النص العنيف والصارخ الذي سنقرأ أجزاءه الرئيسية بعد سطور. > أما بالنسبة الى برنارد لويس، فالأمر يختلف تماماً. فهو ينكر تلك المجزرة وبلغة تحاول أن تكون علمية، على النقيض من لوتي، ليس لأنه مغرم بعالم الإسلام، بل لسبب يبدو غير قابل للتصديق أول الأمر، بل ينظر إليه كثر من الباحثين والمؤرخين كأنه «طرفة» لا أكثر، بل حتى باعتباره افتراء على المستشرق الألمعي. ويتعلق السبب بما يسميه غلاة مناوئي لويس، «صهيونية مناضلة» لديه جعلت واحداً من همومها الرئيسية، الى جانب الاشتغال، لكن دائما من منطلق سلبي، على تاريخ الإسلام والمسلمين، - بل بخاصة على تاريخ العرب حيث غالباً ما نراه يقف الى جانب الفرس والأتراك على الضد من العرب هؤلاء. ومن الواضح، وفق مناوئي برنارد لويس، أن ما يملي عليه تلك المواقف إنما هو عداء متأصل للعرب ومحاولة لإبراز تفوّق المسلمين غير العرب على هؤلاء الأخيرين... -، إذ يتركز همّ صهيونية لويس النشيطة، في العمل، كتابة ونضالاً، من أجل الحديث الدائم عن المجزرة التي تعرض لها اليهود على يد هتلر والنازيين قبيل الحرب العالمية الثانية وخلالها. وبما أن النظرة الصهيونية القصوى الى تلك «المحرقة» تنحو دائماً الى جعلها وسيلة لاحتكار كينونة الضحية في القرن العشرين على الأقل، يبدو طبيعيا وملحّاً طبعاً بالنسبة الى لويس وأضرابه، إنكار وجود أية مجزرة جماعية أخرى في القرن العشرين قد تنافس اليهود على دور الضحية، الذي يعرف لويس جيداً، بل يعترف، بأنه دور مربح للغاية لمن يتقن لعبه! وهكذا انطلاقاً من هنا، يكون من الطبيعي للويس أن ينكر وجود مجزرة ضد الأرمن ارتكبتها تركيا، عثمانية كانت أو غير عثمانية، وهو أمر جعل حتى كثراً بين المثقفين الأتراك أنفسهم يستنكرونه متهمين لويس بتحيز غير علمي وغير منطقي! > وإذا كنا هنا سنتوقف عند بيار لوتي تاركين الحديث عن برنارد لويس لمناسبة أخرى، فما هذا إلا لأن مواقف لويس باتت معروفة ومتداوَلة وخضعت لكثير من السجال من مثقفين عرب وغير عرب. وفي المقابل، يبدو موقف بيار لوتي أكثر غياباً عن الواجهة، ومنسياً بعض الشيء، من ناحية لافتقاره الى أي بعد علمي ومن ناحية ثانية لأن الكاتب نفسه يبدو منسياً اليوم الى حد بعيد. ومن هنا، نجدنا ميالين بين الحين والآخر الى التذكير به وبموقفه الذي، كما أشرنا، أتى نابعاً من مزاج شخصي أكثر مما هو نابع من خلفيات سياسية حقيقية. > فعند بدايات العام 1919، بعد هـزيمـة الأتـراك خـلال الحـرب العالميـة الأولـى وبدايـة انفراط الإمبراطورية، في وقت سادت نزعة العداء الأوروبي للأتراك، كتب بيار لوتي في صحيفة «لو فيغارو» الفرنسية ذلك المقال الذي جاء يومها على عكس التيار السائد، فكان من شأنه أن استفز كثيرين في فرنسا، وفيه يدافع الكاتب عن الأتراك ويلوم الفرنسيين ويندد بالأرمن منكراً عليهم ما يقولونه من تعرض مئات الألوف من أبنائهم للقتل والتشريد. > فما الذي يقوله بيار لوتي في نص ذلك المقال الذي يمكن القول، كما أشرنا، أن النسيان قد طواه منذ ذلك الحين؟ ينطلق لوتي في مقاله متسائلاً في صدد الحديث عن الأتراك، وهو كان حديث الموسم في فرنسا في ذلك الحين، ومنذ ما لا يقل عن ثلاث أو أربع سنوات تلت حدوث المجزرة، ثم بخاصة إثر الهزيمة التي أحاقت بالأتراك خلال الحرب العالمية الثانية «ما الذي فعلناه للأتراك منذ حرب القرم، باستثناء مماشاة أسوأ أعدائهم وباستثناء مطالبتهم بتنازلات لا تنتهي، ومن ثم - وزيادة على ذلك - توجيه الشتائم إليهم في شكل متواصل في جرائدنا كافة، وفي شكل مثير للنقمة؟». «وبعد هذا كله، نكون من السذاجة بحيث نبدي استياءنا لكون الأتراك قد تساقطوا في أحضان الألمان، هم الذين كانوا حلفاءنا الفقراء في الماضي، ومخلصين لنا منذ عهد فرانسوا الأول، لكننا بتنا اليوم ننكرهم، ما يجعلهم يتجهون لالتقاط الفرصة الوحيدة المتاحة لهم للإفلات من الخطر الدائم الماثل عليهم، والذي يمثله العملاق الروسي جارهم...». > «هل يمكنكم، إذا سمحتم، أن تقولوا لنا ما هو الدين المتوجب على الأتراك لنا؟ إن الافتراء الشرقي الفرنسي نجح في إيصال إنجازاته الى حد الكمال. إذ بات من المقر به في الغرب، وحتى عندنا، بأن الأتراك منبوذون خارجون على القانون. وإن كل ما نمنحهم إياه هو إمكانية الاستماع - لا أكثر - الى خطاباتهم في مؤتمر السلام. ترى أفليسوا يشكلون في بلادهم البائسة، أكثرية عددية ساحقة، وجماعة واحدة، في شكل مطلق تقوم على أساس وحدة الدين واللغة وأيضاً النزاهة الخلقية؟ إننا، في الحقيقة، يجب أن نخشى تماماً دفعهم الى تصرفات يائسة، ما يعني أننا نساند في الوقت نفسه تلك اللعبة التي يمارسها العملاء الاستفزازيون المأجورون، من الذين يقومون داخل بلاد الأتراك بمؤامرات ومناورات خسيسة». > ويتابع لوتي: «إن الأتراك أبدوا، نحونا، خلال الحرب، الكثير من الود والعرفان الاستثنائيين، وهو أمر لا يمكن أن ينكره إلا أصحاب النوايا السيئة. وها نحن أولاء نبدي عرفاننا بجميلهم على النحو الذي نبديه! آه، كم كان مبلغ تأثري عظيماً وأنا أقرأ الرسالة الطويلة التي كتبها واحد من قادة سفننا الأشاوس! إن هذا القائد لتلك السفينة الحربية المجيدة، حين ثقبت سفينته من طرف الآخر وحافظت على البيرق الفرنسي عالياً، وهي تغرق، اتجه هو نحو اليابسة سباحة، لاحقاً بمن تبقى من بحارته الميتين تقريباً. عندئذ، حدث أن الأتراك بدلاً من أن يطلقوا الرصاص عليه كما يحدث في الحروب الهمجية عادة، دلوه على المكان الذي يمكنه أن يرسو فيه. وهم إذ وجدوا أن ليس لديهم مركب يمكنهم أن يرسلوه إليه لمساعدته، دخلوا الماء بأقدامهم ليساعدوه ويساندوه. أما الضابط التركي الذي كان يقود المجموعة، فإنه، من بعد ما حيا الضابط الفرنسي بودّ ماداً له يده، سدد التحية العسكرية لجميع البحارة، وحتى للأقل رتبة من بينهم، معرباً لهم بالفرنسية عن أسفه العميق لاضطراره الى إطلاق النار على السفينة الفرنسية». > «إن لدي بين يديّ، يضيف لوتي، الملفات المقذعة والمختومة والدامغة، التي تتحدث عن العملاء الاستفزازيين الذين كلفوا باستثارة المجازر، وعن الأفعال التي يقوم بها الأرمن في آسيا، ومنذ بداية الحرب العالمية، كان الأرمن في ذلك الحين من رعايا الدولة العثمانية، وكان الأتراك تاركينهم من دون أذى حتى ذلك الوقت، ومع هذا فإن الأرمن لم يترددوا عن تشكيل الطليعة التي تركض في مقدمة الغزو الروسي وفي خدمته كجواسيس وأدلة، في القرى كما في المدن. وهم لم يكتفوا بأن يدلوا الغزاة الروس على بيوت الأتراك، بل كانوا أول من يبادر الى إحراقها، والى تعذيب سكانها وقتلهم كيفما اتفق. إزاء مثل هذا، يختم لوتي متسائلاً، أين هو الشعب الذي لن يقدم على الانتقام وبكل عنف من هؤلاء العملاء الذين اقترفوا مثل تلك الأفعال بين ظهرانيه وفي عز الحرب؟». > هذا المقال الذي كتبه بيار لوتي ووقعه في ذلك الحين، كانت له ضجة كبيرة في فرنسا، وهوجم صاحبه من كثيرين، لكنه لم يعدم كثيرين يدافعون عنه في الوقت نفسه.

مشاركة :