بالنسبة إلى الكاتب الفرنسي بيار لوتي لم يكن اختيار العرب والشرق والإسلام اختياراً عارضاً يستجيب لـ «موضة» تأتي وتمضي بسرعة. كان الشرق بالنسبة إليه اختيار حياة بأسرها، عشقه وعاشه في كل لحظة من حياته، فكان واحداً من أولئك الذين التهبوا بعشق تلك الرقعة من الكون التي يختلط فيها الزمان بالمكان في شكل غريب، وتشكل في نهاية الأمر خشبة الخلاص للأرواح الهائمة التي لم تكن لتجد في مادية الغرب ورتابة اليومي فيه، دافعاً للعيش أو ذريعة للخلق. من هنا، كان اختيار بيار لوتي الشرق اختياراً ينبع من لهيب دائم الاشتعال. فهذا الرجل الذي تستعاد ذكراه في كل مرة من جديد، استوعب دروس رومانطيقيي عصره فحولها إلى منهاج حياة، ورأى في الالتصاق بذلك المكان الذي كان يوصف بالسحر والغرابة، سبباً للعيش يغني عن كل الأسباب الأخرى. > منذ البداية علينا أن نلاحظ أن التبرج الذي يكاد يشبه القناع، والذي يبدو واضحاً على سحنة بيار لوتي في كل الصور الملتقطة له، هو أقرب إلى الرمز، طالما أن لوتي عاش حياته كلها تحت شعار الأقنعة، فحتى اسمه الذي عرفناه به، لم يكن أبداً اسمه الحقيقي. وليس في الأمر ما من شأنه أن يضعنا أمام الحيرة، إن نحن علمنا أن بيار لوتي ولد في الأصل في كنف أسرة بروتستانتية كانت واحدة من الأسر القليلة التي ظلت على دينها يوم نقض الكاثوليك في فرنسا بيان نانت، وبدأت مذابح البروتستانتيين. فتلك الأسرة بدلاً من أن تضع على سحنتها قناع دين السلطات، فضلت أن تهرب وتلجأ إلى جزيرة صغيرة تمارس فيها حياتها على سجيتها. من هنا حين بلغ بيار لوتي (وكان لا يزال يدعى آنذاك: لويس فيو) سنوات صباه الأولى، وجد نفسه منتمياً لأقلية على أكثر من صعيد: أقلية دينية، وأقلية سكانية، وأقلية جغرافية... بل وحتى أقلية جنسية، طالما أنه عاش منذ طفولته في بيئة نسائية بين أمه وأخته وخالاته العجائز. وككل إنسان يشعر بانتمائه إلى أقلية ما، كان من الطبيعي أن يخالج الفتى منذ طفولته شعور بالتمرد والانطلاق... أما كونه من سكان جزيرة صغيرة، فلقد ساهم في جعل رغباته تتجسد تحت شعار السفر والبحر... ثم أتت قراءاته لشاتوبريان، لتجسد السفر في مكان واحد: الشرق. > وهكذا بدأ نسيج حياة لويس فيو يتشكل من تلقائه، تحت ضغط حبه للفن ولا سيما الرسم والموسيقى، وتحت ضغط آفاق مياه المحيط التي تطالعه ليلاً نهاراً، ولأن أسرة الفتى كانت تضم من بين الأجداد البعيدين والأقرباء عدداً من البحارة، كان من الطبيعي أن تكون لديه تلك الاستجابة لنداء البحر ونداء البعيد... وبدأ يتحرق شوقاً ليعمل بحاراً... والحقيقة أن كل ما سيفعله بيار لوتي بعد ذلك لم يكن أكثر من تدوين يومياته، طالما أن كل ما كتبه في حياته، إنما كان أشبه بمرآة تعكس أحلامه وأشواقه وذكرياته وحنينه الدائم إلى البلاد البعيدة، والإبحار من محيط إلى آخر وبين البحار. > ويقيناً إن شخصاً مرهفاً، خيالياً، رومانسياً على غرار بيار لوتي لم يكن من شأنه إلا أن يعيش حياته تحت شعار الحب، فالرومانسيون المرهفون لم يكونوا من الناس الذين يبخلون بعواطفهم. والحب هو الموضوع الأساسي مثلاً، في رواية بيار لوتي الأولى «آزيادة» التي نشرها أواخر سبعينات القرن التاسع عشر، فجعلت له مكانة أولية في عالم الأدب، على رغم أنها لم تلفت الأنظار بصورة جدية أول الأمر. و «آزيادة» التي كتبها لوتي بعد تجواله في أفريقيا، ثم إقامته ردحاً من الزمن في اسطنبول، تروي حكاية غرام تشبه السيرة الذاتية بين ضابط إنكليزي وسيدة تركية... كان من الطبيعي أن تنتهي الرواية بموت الحبيبين، طالما أن الكاتب كان آنذاك (وسيظل دائماً) متأثراً بفيكتور هوغو وشاتوبريان. لكن المهم في هذه الرواية، ليس موضوعها، بل مناخها، لأنها في نهاية الأمر تعتمد على النظرات التي يلقيها بيار لوتي على تركيا عهدذاك... تركيا التي كانت تكاد تختصر الشرق كله. كانت «آزيادة» عبارة عن بطاقة دخول بيار لوتي ليس عالم الأدب وحده، بل عالم الشرق كله، عالم الإسلام تحديداً. > كان اختيار لوتي للشرق، عبر «آزياده» وبعدها، اختيار هوية، لا مجرد اختيار ذهني. ومن هنا، يمكن القول إن ارتباط بيار لوتي بالشرق نموذجي... ويمكننا بالتالي فهم ما كتبه دفاعاً عن الأتراك في بدايات عام 1919. فبعد هزيمة هؤلاء في الحرب العالمية الأولى وبدايـة انفراط الامبراطورية، في وقت سادت فيه نزعة العداء الأوروبي للأتراك، كتب بيار لوتي في صحيفة «الفيغارو» الفرنسية مقالاً جاء عكس التيار السائد، واستفز الكثيرين في فرنسا، فيه يدافع عن الأتراك ويلوم الفرنسيين ويندد بالأرمن. > يقول لوتي في مقاله الصاخب: «ما الذي فعلناه للأتراك منذ حرب القرم، باستثناء مماشاة أسوأ أعدائهم. وباستثناء مطالبتهم بتنازلات لا تنتهي، ومن ثم - وزيادة على ذلك - توجيه الشتائم اليهم بشكل متواصل في جرائدنا كافة، وبشكل مثير للنقمة؟ وبعد هذا كله، نكون من السذاجة بحيث نبدي استياءنا لكون الأتراك قد تساقطوا في احضان الألمان، هم الذين كانوا حلفاءنا الفقراء في الماضي، ومخلصين لنا منذ عهد فرانسوا الأول، لكننا بتنا اليوم ننكرهم، ما يجعلهم يتجهون لالتقاط الفرصة الوحيدة المتاحة لهم للإفلات من الخطر الدائم الماثل عليهم، والذي يمثله العملاق الروسي جارهم... هل يمكنكم، إذا سمحتم، أن تقولوا لنا ما هو الدين المتوجب على الأتراك لنا؟ إن الافتراء الفرنسي على الشرق نجح في إيصال إنجازاته إلى حد الكمال. إذ بات من المقرّ به في الغرب، وحتى عندنا، أن الأتراك منبوذون خارجون على القانون. وأن كل ما نمنحهم إياه هو إمكان أن نصغي، لا أكثر، إلى خطاباتهم في مؤتمر السلام. ترى أفليسوا يشكلون في بلادهم البائسة، أكثرية عددية ساحقة، وجماعة واحدة، في شكل مطلق تقوم على أساس وحدة الدين واللغة، وأيضاً النزاهة الخلقية؟ إننا، في الحقيقة، يجب أن نخشى تماماً دفعهم إلى تصرفات يائسة، ما يعني أننا نساند في الوقت ذاته تلك اللعبة التي يمارسها العملاء الاستفزازيون المأجورون، من الذين يقومون داخل بلاد الأتراك بمؤامرات ومناورات خسيسة. > «إن الأتراك أبدوا، نحونا، خلال الحرب، الكثير من الود والعرفان الاستثنائيين وهو أمر لا يمكن أن ينكره إلا أصحاب النيات السيئة. وها نحن أولاً نبدي عرفاننا بجميلهم على النحو الذي نبديه! آه، كم كان تأثري عظيماً وأنا أقرأ الرسالة الطويلة التي كتبها واحد من قادة سفننا الأشاوس! إن هذا القائد لتلك السفينة الحربية المجيدة، حين ثقبت سفينته من الطرف الآخر وحافظت على البيرق الفرنسي عالياً وهي تغرق، اتجه هو نحو اليابسة سباحة، لاحقاً بمن تبقى من بحارته الميتين تقريباً. عندئذ حدث أن الأتراك بدلاً من أن يطلقوا الرصاص عليه كما يحدث في الحروب الهمجية عادة، دلوه على المكان الذي يمكنه أن يرسو فيه. وهم إذ وجدوا أن ليس لديهم مركب يمكنهم أن يرسلوه إليه لمساعدته، دخلوا الماء بأقدامهم ليساعدوه ويساندوه. أما الضابط التركي الذي كان يقود المجموعة فإنه، بعدما حيا الضابط الفرنسي بود ماداً له يده، سدد التحية العسكرية لجميع البحارة، وحتى للأقل رتبة من بينهم، معرباً لهم بالفرنسية عن أسفه العميق لاضطراره إلى إطلاق النار على السفينة الفرنسية». > «إن لدي بين يدي الملفات الموقعة والمختومة والدامغة، التي تتحدث عن العملاء الاستفزازيين الذين كلفوا باستثارة المجازر، وعن الأفعال التي يقوم بها الأرمن في آسيا، ومنذ بداية الحرب العالمية، كان الأرمن في ذلك الحين من رعايا الدولة العثمانية، وكان الأتراك تاركينهم دون أذى حتى ذلك الوقت، ومع هذا فإن الأرمن لم يترددوا عن تشكيل الطليعة التي تركض في مقدمة الغزو الروسي وفي خدمته كجواسيس وأدلة، في القرى كما في المدن. وهم لم يكتفوا بأن يدلوا الغزاة الروس على بيوت الأتراك، بل كانوا أول من يبادر إلى إحراقها، وإلى تعذيب سكانها وقتلهم كيفما اتفق». > ويمكننا طبعا أن نتصور العاصفة التي أثارها مقال لوتي في ذلك الحين في فرنسا، كما في غيرها!
مشاركة :