حسان الحديثي العفة هي تركك الشيء وانت على اخذه قادر وله محتاج لعلوٍ في الهمة وترفعٍ في النفس، قال رب العزة : لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا ۗ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ وقال عنترة ابن شداد:هَلاَّ سأَلْتِ الخـَيلَ يـا ابنـةَ مالِكٍ ... إنْ كُنْتِ جاهِـلَـةً بِـمـَا لَـم تَعْلَمِييُخْبِرْكِ مَــنْ شَهَدَ الوَقيعَةَ أنَّـني ... أَغْشى الوَغَى وأَعِفُّ عِنْد المَغْنَمِاي اخوض إوار الحرب حتى النصر فاذا حُسمتْ المعركة وانتصرتُ ترفعتُ وتركتُ الغنيمة ، ثم أُخذ المعنى وضُرب مثلا في الاتزان في الميول والرغبات وكبح جماح العواطف والشهوات تزكية للنفس وسموا بها عن كلِ خلقٍ دون.ولا يكون الرجل شريفاً حتى يكون عفيفاً والشرف هنا بمعنييه اللغوي والدارج لدى العامة؛ فاما اللغوي فان الشرف يعني العلو في الحسب والنسب ولعله أُخِد من الارض المرتفعة المشرفة على ما حولها قال الطرماح بن حكيم:يبدو وتضمره البلاد كأنّه ... سيفٌ على شرفٍ يُسلُّ ويُغْمدُ وقوله: على شرف اي على جبل او على ارض مشرفة على ما حولها، والبيت في وصف ثور ابيض ويحسبه القارئ انه في سيد قوم او في فارس شجاع لحسن بنائة وروعة معناه ووقعه واثره في النفس. واما المعنى الدارج فالشريف هو من لم تدنس سمعته بشائبة ولم تصبْ عرضَه لكعةُ سوء. وقال اهل العلم واللغة في العفة ايضا بأنها الكَفُّ عما لا يَحِلّ ويَجْمُلُ في القول والعمل والعَفَّ هو من حبس نفسه وقيدها عن المَحارِم ونزه نفسه عن الدَّنِية من الامور وقال ربنا في التنزيل: "ولْيَسْتَعْفِف الذين لا يَجِدون نكاحاً" قال فيه المفسرون فيها انها اشارة لضْبِطْ النفس عن الحرام والاستقواء عليه بالعبادة مثل الصوم فإن الصوم وِجاءٌٌ ، والوِجاء هو الدفع عن الشيء. وفي الحديث النبوي الشريف: إِنَّ نَاسًا مِنْ الْأَنْصَارِ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْطَاهُمْ ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ حَتَّى نَفِدَ مَا عِنْدَهُ فَقَالَ: مَا يَكُونُ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ ، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ ، وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ ، وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنْ الصَّبْرِ. والعفة في النساء كما هي في الرجال والعَفِيفة من النساء هي السيدة الخَيْرةُُ ، وكان العرب يتعففون عن السؤال ويحسبونه دنيةً من قبل البعث قال عمرو بن الأَهتم: إنَّا بَنُو مِنْقَرٍ قومٌ ذَوُو حَسَبٍ ... فِيـنا سَـراةُ بَني سَـعْـدٍ ونـاديهاجُرْثُومةٌ أُنُفٌ، يَعْتَفُّ مُقْتِرُها ... عن الخَبِيثِ، ويُعْطِي الخَيْرَ مُثْريها والجُرْثُومة تعني الأصل وجُرْثُومة الشيء أَصلُه ويقصد هنا بالجرثومة اي ان قومه سادة اصلاء وعمرو بن الأهتم هو الذي سأله النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الزبرقان بن بدر -والشيء بالشيء يذكر- فوصفه قائلاً: إنه مطاع في أدنيه، شديد العارضة، مانع لما وراء ظهره. فقال الزبرقان: يا رسول الله، إنه ليعلم مني أكثر من ذلك، ولكن حسدني، فقال ابن الاهتم: والله يا رسول الله، إنه لزمر المروءة ضيق العطن حديث الغنى أحمق الوالد لئيم الخال وما كذبت في الاولى ولقد صدقت في الاخرى؛ رضيت فقلت بأحسن ما علمت، وسخطت فقلت بأسوأ ما علمت. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن من البيان لسحراً " . ولله درُّ ذي الإصبع العدواني حين قال مادحاً نفسه :إنِّي لعـمرُك مـا بـابي بـذِي غـلـقٍ ... عن الصَّديقِ ولا خَيري بمَمْنونِعفٌّ يَؤوسٌ إذا ما خفتُ من بلدٍ ... هُوناً فلستُ بوقَّافٍ على الهونِكـلُّ امرئٍ راجعٌ يـوماً لـشـيـمـتِهِ ... وإنْ تـخـلَّـقَ أخلاقاً الى حـيـنِ وقد جمع بين العفة واليأس بمعرفة ودراية ثم اطلق حكمة بالغة الجمال في قوله:كلُّ امرئٍ راجعٌ يوماً لشيمتِهِ ... وإنْ تخلَّقَ أخلاقاً الى حينِ اما قوله "ولا خيري بممنون" اي بمقطوع قال رب العزة: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ومن معاني العفة تمنع النفس عن غلبة الشهوة عليها ، قال جرير في هذا المعنى في هجاء الفرزدق: وقائلة: ما للفرزدق لا يُرَى ... على السُنِّ يستغني ولا يتعفف؟وهذا من اقذع الهجاء ذلك ان الرجل اذا شاخ صار كيّساً متزناً حيياً عفيفاً وفي البيت وصف لقلة في الخلق والحياء وخفة في السلوك والتصرف والمبالغة فيها انها اجتمعت في شيخٍ مسنٍ وقد وافق قوله هذا قول زهير بن أبي سلمى في معلقته:وَإَنَّ سَفَاهَ الشَّـيْخِ لا حِلْمَ بَعْـدَهُ ... وَإِنَّ الفَتَـى بَعْدَ السَّفَاهَةِ يَحْلُـمِ والاغرب ان من يقرأ مطلع قصيدة جرير هذه لن يتصور ولن يخطر بباله ان سيصل في خشونة القول الى ما وصل اليه من هجاء وافتضاح فقد كان في مطلعها متغزلا رقيقا كنسيم الصباح نقياً عفيفاً كضوء الفجر حيث يقول في مستهلها:أَلا أَيُّها القَلبُ الطَروبُ المُكَلَّفُ ... أَفِق رُبَّما يَنأى هَواكَ وَيُسعِفُ وقيل للأَحْنَفِِ ابن قيس: ما الـمُرُوءة؟ فقال: العِفَّةُ والحِرْفةُ. والمقصود في الحرفة في قول الاحنف هو العمل الذي يتكسب منه المرء كسباً حلالاً فلا يلجأ للسؤال. وقد شرح الامام الشَّافِعيُّ كلمة "الفُقَرَاءُ في الآية انفة الذكر انهم الذينَ لا حِرْفَةَ لَهُم، وأهْلُ الحِرَفِ الذينَ لا تَقَعُ حِرْفَتُهُم من حاجَتِهِم مَوْقِعاً، اما المَساكينُ فهم السُّؤَّالُ مِمَّنْ له حِرْفَةٌ تَقَعُ مَوْقِعاً ولا تُغْنِيهِ وعِيالَهُومن اجمل من ذكرت به العفة في الشعر قول أبي الطيب المتنبي :والظلم من شيم النفوس فإن تجدْ ...ذا عفةٍ فلِعلّةٍ لا يظلمُوهذا البيت من عيون الشعر العربي مبنى ومعنى واذا حق لنا ان نطلق وصف "البيت الكامل" في الشعر العربي فلن نجد اجمل من هذا البيت لهذا الوصف. وهنا اراد التعفف عن الظلم وهي استعارة رائعة حيث انه جعل التضاد بين العفة والظلم وهذا لا يقدر عليه الا من له علم وجرأة على اللغة والمتنبي حري بهما. اما اخس الناس واتفههم وادناهم انسانية فهو من خان ولي نعمته وجحد من كفله في طفولة او كان له عونا في علم او رزق ثم استعلى وانقلب عليه فهذا هو المتجرد من كل فضيلة اذ لم يبق للحمه وعظمه الا كيسا حقيرا يسمى الجلد تتراوح فيه نفس وضيعة. وقد احسن الشاعر١ واجاد اذ قال:اثنان لا تـأمـنْـهـمـا أبـداً ... واحذرهما دومـاً وكـن وَرِعاالذئب ان بانت نواجذه ... "وربيبك" الموتور إن شَبِعا وفي نفس المعنى قول اخر١ :لا تأمنِ الذئبَ إن بانتْ نواجذه ... إن الذئاب بدا في طبعها الغدرُواحذرْ خليلا إذا أبدى ابتسامتَه ... فربَّ بسـمة خـل ملؤها مكرُ ..١- الابيات من حفظي ولا ادري لمن وقد بحثت عن الشاعرين ولم اهتد اليهما.
مشاركة :