حسان الحديثي مرت ثلاثة اعوام على أول "حديث خميس" كتبته ولعلني كتبت ما يزيد على مئة وخمسين حديثاً، ولكني حين شرعت فيه لم يمرّ في خلدي يومها أن اكون محللاً لقصيدة ولم احرص ان اكون واصفاً لشاعر او شارحاً لنص ادبيّ قدر حرصي ولهفي في ان اسير في دروب الأدب واللغة سائحاً في مغانيها وواحاتها متنقلاً بين ملاعبها وساحاتها. كثيرةٌ هي المتع في هذه الحياة ومتنوعة ايضاً، ولكن متعة اللغة مختلفة ومميزة، ذلك ان فيها من الفضاءات ما يُنبت لك الف جناح للطيران والتحليق في عوالمها ، وفيها من المغريات ما يعطيك الف سبب لتعمد الضياع في متاهاتها ونسيان العودة الى كل ما له علاقة بالمادة والواقع، وفيها من الخيال ما يجعلك تنطلق بلا هدف ولا غاية لانهما يعنيان الوصول، والوصول في رحلة الأدب محطة بائسة تُفسد روعة الرحلة وجمال السفر. لا يوازي لذة اللغة والأدب عندي الا سماع الموسيقى فكلاهما ضرب من السحر وكلاهما خروج عن محيط المألوف وكلاهما غذاء حقيقي للاروح. وإني لاشعر ان روحي مفازة موحشة متروكة لا حضرة فيها ولا ماء، وقلبي خربة منسية مهجورة الا من صفير البوم والريح ان تركتها بلا شيء من الادب والموسيقى وإني بين هذه وتلك كالحالِّ المرتحل؛ إذا حللت من الأدب رحلت مع الموسيقى وأن استرحت من الموسيقى سافرت مع الأدب. ولعلي عشت يوماً كاملاً على معنى جميل لبيت شعر اردده تارة واغنيه اخرى واستذكر ما قبله وما بعده وما شابهه من الشعر في معنى او مفردة او حسن بناء، حتى لاشعر وكأنه عشش في راسي وبنى في ذاكرتي وصرت له اسيراً وبه مربوطاً سجين جماله مقيداً بحسنه وكل ذلك من الاحسان... ومن وجد الإحسان قيداً تقيدا. ربما حسب البعض ذلك نوعاً من الألفة بين العين وما تقرأ والأذن وما تسمع او حالةً من الطرب الذي يذهب بالروح محمولاً على جناح الخفة والنشوة والارتياح، مرة بهزّة فرح واخرى برعدة حزن وبين هذا الفرح وذاك الحزن مسالك طويلة من الجمال ومدارك عريضة من الأنس واللذة. وربما رآها اخرون حالةً من الحب والغرام وضرباً العشق والتعلق تصل الى مرحلة الوله ولكنه ولهٌ آمن فيه الف طريق تسلمك للعقل والأمان وليس فيه طريق واحد يؤدي الى الجنون والهذيان. أما الكتابة فهي راحة ومقيل وظل ظليل وهدأة بعد رحيل لاجلك ذلك لم ارني استلّ قلمي يوماً يوماً لاحرر نصاً ادبياً قدر ما اتخذت من رأسه المدبب آلة أصنع منها ثقباً في رأسي لتسيل منه الفكرة على الورق فأنا لست محرراً لغوياً ولا كاتباً صحفياً، كما أني لست صاحب مهنة كتابية لها علاقة بأدوات الكتابة من دواة وريشة وقرطاس، وليست الكتابة عندي حالة من الترف وقضاء الوقت وتسجيل الذكريات ، الكتابة عندي حاجة ملحة كالنوم لجسدٍ تعِبٍ او كشرب الماء لروحٍ ظمأى، أو لعلها نوع من الديمقراطية الخالصة أمارسها من نفسي وجوارحي متى ما شاؤا وليست عملاً اقوم به او جهداً ابذله لتحقيق شيء ما او للوصل لهدف بعينه. اجمل شيء في هذه الحياة ان تكون لك ذاكرة قوية ونسيان لا يقل عنها قوة وسرعة؛ قوية بحيث لا تنسى جميلاً وسريعة بحيث تمحو من ذاكرتك كل قبيح، حادة الى الحد الذي تمكنك من حفظ قصيدة دون العشرة ابيات من السماع الأول ولا بأس ان اعدتها مرتين كي تتقن حفظها ولكن ليس اكثر من ذلك لان الشعر الحسن لا يحتاج لجهد الحافظة فهو ينطبع في الذاكرة كفعل المياسم١ على جلود الابل فحرارتها اللاهثة كفيلة بترك الاثر. كذلك حسن الشعر وروعة البلاغة له حرارة تطبعها على جدار الذاكرة فلا يمّحي بمرور السنين والاعوام بل يزداد قوة ولمعانا كلما مررت به او عليه. ولا خير في نص يجهدُك ارتباكه ويتعبك اضطرابه فتتقصد تذكّرَه وتتعمد حفضه فيكون راسك اشبه بآلة حافضة منه الى ذاكرة حافظة. اذكر اني شاهدت لقاءً للجواهري قرأ فيه ابياته الجميلة لا تلم امسَك فيما صنعا ... امس قد ولى ولن يسترجعاامسِ قد فات ولن يبعثَه ... حملُك الـهمَّ لـــه والـجـزعـاهدراً ضيعتَه مثل دم الـ ... ـملك الأبــرش لــمّــا ضَـيّـعا فاطّرحْه واسترحْ من ثقله... لا تُضعْ امسَك واليوم معاآه كـم جـرّرّتها مـن كـبـدٍ ... من وقيد الآه ذابت قِـطعـا آه يا شرخَ الصِبا لو طللٌ ... سَمِع النجوى ولو ميْتٌ ... وعى قال لي صاحبي يومها متأسفاً: لو سجلنا هذه الابيات الجميلة. فقلت له: اكتبها. ثم أمليتها عليه كاملةً بلا خطأ ولا تلكؤ، فجمال القول جدير بسرقَة حيزٍ من على جدار الذاكرة وحسنُ الكلام حريٌّ بسلب الافئدة ولعل ساعة قضيتها اقلب صفحة كتاب أمتعُ عندي من النظر الى صفحة خد اسيل بل وودت لو اسيل على صفحته روحاً بعد روح وانسكب على اوراقه نَفساً إثر نَفَس. وهكذا كان حديث الخميس، رحلةً تأملية في عالم المعاني وانطلاقاً فكرياً في فضاء الكلمات أحاول فيه ترجمة الشعر بالشعر وشرح الفكر بالفكر بعيدا عن عقد الكلام وتخشب المعاني وغوغائية الدلالات فقد شقي من لم يجعل من لسانه دواء لبعض أدواء ما تعكر من صفو العيش و تعس من لم يكن قوله ترياقاً لسموم الفكر ، وهلك من لم يدهدِ من روحه شعلاً مضيئة الى أؤلئك القابعين في ظلمة قعر الحياة. لاجل كل ما تقدم ولاسباب أخَرى تليق بالجمال والحياة والأمل كانت رحلتي بين صفحات الادب والتاريخ بين الرؤى والعبر، والحياة والقدر، وتجاريب السابقين، وابتكار اللاحقين، لتكون استراحة لاؤلئك المتعبين من رحلة الكد والتعب، الطامحين بساعة سكينة بعد جهد وعنت، الحالمين بجناح آمن وريش ناعم يقلهم على ظهره بعيداً من الحقيقة والواقع الى عالم من الطيف والخيال فجاء حديثا، كان يوم أوانه يوم الخميس فكان اسمُه....... حديثَ الخميس. .١ المِيسَمُ : آلة من الحديد كالمكواة تُوسَم بهَا الدَّوَاب
مشاركة :