الخياط.. قصة قصيرة يكتبها الروائي هشام البواردي

  • 10/20/2018
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

فكر فى أن يقعد فى مكانه وأن يلتقط أنفاسه وأن يستريح، ولم يكن يعرف معلما للمكان حتى يستريح فيه، ففى كل اتجاه وفى كل مكان يصل إليه لم يكن يجد غير السواد ولذا لم ينقطع جريهجنب الفلاحة كان يعمل بالخياطة، وكان متخصصا فى تفصيل أغطية المساند والمخدات وفرش الكنب، وتفصيل «اللبسة» الفلاحى الطويلة المنتهية تحت الركبة بقليل، وكانت صنعته على القد، كان نظره ضعيفًا، وكان يطبش بعينه فى الخياطة وفى الحياة. خرج من الجيش ولم يحارب فى حرب أكتوبر بسبب عينه الطبشاء تلك، لكنه سافر بها إلى العراق وإلى الأردن وإلى السعودية، وعاش معظم سنين عمره الجميلة محروما من زوجته وأبنائه فى هذه البلاد.ولما رجع من رحلة سفره الطويلة عاد إلى أرضه وإلى الخياطة، حتى ندر الكنب وظهرت الأنتريهات، والصالونات الجاهزة، وسمى الناس «اللبسة» كلوتات وأندرات، وصاروا يشترونها جاهزة، فتخصص تماما فى تفصيل وتأييف كفن الموتى، كان اليوم الذى يسمع فيه النعى من ميكروفون جامع الكفر بشرة خير، ومصدر سعادة بالنسبة له، ولم يكن يهتم أو يتعاطف مع أحد، كان يشبه الأطباء والممرضات فى تعاملهم العادى والروتينى مع الموت، لم يكن يحزن إلا حين يذهب أهل الميت لتخييط الكفن عند خياط آخر، كان يحزن حزن طبيب على ذهاب مريض إلى طبيب آخر، رغم أن كلا الطبيبين لن يفعل المريض شيئا ذا بال، وقد بقى محافظا على هذه الصنعة حتى كلت عيناه، ولم يعد يرى الفتلة والإبرة، فاكتفى بالفلاحة، يزرع ويقلع ويبيع ويشترى ويأكل والدنيا ماشية. وفى يوم وليلة، اشتغل فى تلحيد الموتى، ومن يوم ما نزل الترب بظهره وأراح أصدقاءه وأقاربه على الرمل لم يعد يخاف... ولا من الموت.وآمن أنه قادر على القيام بكل المهام حتى لو أغلقت عيناه، واعتقد كما يعتقد التُربية والشيوخ والمقرئون والملحِّدون، وكما يعتقد كل الذين يشتغلون فى صناعة ما، أنهم أصدقاؤها وخلصاؤها المقربون، وأنهم سيأخذون منافعها ويجتنبون شرها، لذا كان يذهب لقضاء المشاوير فى المنصورة وفى السنبلاوين وفى القاهرة، ويسأل عن عناوين ويعبر طرق ويركب عربات، ويمضى بينها، وهو مبتسم ومتحدٍ له، ثم يعود وقد ازدادت ابتسامته ويقينه فى قوته أكثر. وفى مرة وهو فى الغيط جاءه! فترك فأسه وأخذ ذيله فى سنانه وجرى، ولم يكن يعرف إلى أين، فالدنيا كلها فى عينه كانت سوادًا فى سواد، ومع ذلك استمر، تعثرت عينه فى الحجارة والصخور، واصطدم بالأشجار وغاص فى المساقى والقنوات والمصارف، وكان يسمع صوت الناس فى أذنيه وهى تصيح: - رايح فين يا جدع؟ حاسب يا جدع.. خد بالك يا جدع! ولم يكن يلتفت إلى سؤال ولا إلى موعظة، كان يشعر أن السواد سيكشف، وأن الطريق سيظهر، وأن المنجى قريب لو وصل، ولم تكن من حقيقة قائمة طول رحلة جريه غير الظلام.وفكر فى أن يقعد فى مكانه وأن يلتقط أنفاسه وأن يستريح، ولم يكن يعرف معلما للمكان حتى يستريح فيه، ففى كل اتجاه وفى كل مكان يصل إليه لم يكن يجد غير السواد ولذا لم ينقطع جريه.فكر أين يختبئ، فى الدار والاَّ فى الغيط والاَّ يدخل جامع ويبقى فيه حتى ينقشع ذلك السواد؟ ولم تكن كل هذه الأماكن تمثل له إلا لحظات مؤقتة من الهدوء والطمأنينة، أما الخوف والرعب فكان يملأ قلبه كله كلما غادرها. وكله من السواد، من الطريق الذى كان يلتفت ويرى أوله فيغرق، ويحاول أن يرى آخره فيغرق. فكر فعليًّا أن يتوقف ويواجه وليكن ما يكون، طالما أنه قاهر هكذا، وطاغ هكذا، ويده طائلة هكذا فلماذا الهرب؟ وإلى أين؟ وحين أخذت خطوته تبطئ ويفتر عزمه وتصميمه على الهرب، شعر بالظلام ينقشع والنور يظهر، ومعالم الدنيا بانت من بعيد، لكنه قبل أن يراها واضحة ويتأكد منها، ملأ صدره ألم لا يطاق وتوقفت قدماه فى منتصف طريق الهروب من الظلمات، ومنتصف طريق الوصول إلى النور الكامل. وخر راكعًا وساجدا وموقنا بالحيرة والعذاب والتخبط، وسمع فى أذنه وهو ممدد فى وسط الطريق ميكروفون الجامع الكبير – هنا فى الكفر - يقول:كل من عليها فانويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام.توفى إلى رحمة الله تعالى اليوم.ثم ضعف الصوت وتبدد فى أعماقه، والتف الناس حوله وهم ينهجون.. كانت الشمس ساطعة وتنير كل شيء، ومع ذلك لم تتوقف أسئلة الناس عليه: ما لك؟ هربان من إيه؟ولم يكن بمقدوره أن يجيبهم.. فقد مات.

مشاركة :