ليس كلام الرئيس فلاديمير بوتين في منتدى «فالداي»، وهو مركز أبحاث روسي عن تحقيق روسيا أهدافها في سورية سوى من نوع الكلام الموجه للاستهلاك الداخلي. لم تنجح روسيا في سورية بعد. انّها ابعد ما تكون عن تحقيق أهدافها. هذا عائد الى سبب في غاية البساطة يتمثل في انه ليس هناك من هو على استعداد لدفع أي ثمن لروسيا في مقابل امساكها بالورقة السورية. اكثر من ذلك، لا يوجد من هو على الاستعداد لاعادة اعمار سورية... هذا اذا كان في الإمكان إعادة اعمارها في ظلّ الدمار الذي تسببت به الحرب التي يشنها النظام على شعبه. هذه الحرب مستمرّة منذ العام 2011، بمشاركة روسية وايرانية، وهي تتمة لحرب تستهدف افقار سورية والشعب السوري بدأت عمليا مع تأسيس النظام الأمني على يد الضابط عبد الحميد السراج ابان الوحدة مع مصر بين العامين 1958 و1961. كان واضحا انّ هم الرئيس الروسي محصور في اقناع مواطنيه بأن التدخل في سورية من اجل ضمان بقاء بشّار الأسد في دمشق له ابعاد سياسية تشكل أولوية روسية. تحدث فلاديمير بوتين عن الحرب على الإرهاب متجاهلا دور النظام السوري منذ العام 1970 في دعم الإرهاب والمتاجرة به في سياق لعبة الابتزاز التي اتقنها.لا بدّ من الاعتراف بأنّ لكلام الرئيس الروسي تأثيرا على المواطن العادي. لا يزال الحنين الى عظمة روسيا يثير المشاعر الوطنية في داخل هذا المواطن الذي لا يدرك مغزى انّه لا يوجد في منزله أي قطعة اثاث او آلة كهربائية صنعت في روسيا التي تفتخر بامتلاك ترسانة نووية. لو كانت الترسانة النووية تبني دولة عصرية، لما كان الاتحاد السوفياتي انهار بالطريقة التي انهار بها مباشرة بعد سقوط جدار برلين في نوفمبر من العام 1989.شكل الكلام عن تحقيق الأهداف الروسية جانبا من الكلمة التي ألقاها الرئيس الروسي في منتدى «فالداي» الذي انعقد للمرة الخامسة عشرة والذي استضافه هذه السنة منتجع سوتشي. الجانب الآخر المهمّ في كلمته كان مرتبطا بالوجود الايراني في سورية. اعتبر بوتين ان ليس من مهمّات روسيا اقناع ايران بسحب قواتها من سورية، مضيفا انّ على الحكومات التي تدعو ايران الى الرحيل عن سورية تقديم ضمانات بأنّها لن تتدخل في الشأن السوري.من الواضح انّ الرئيس الروسي يوجه كلامه الى الأطراف المهتمة بالانسحاب الايراني من سورية. في مقدّم هذه الأطراف إسرائيل والولايات المتحدة. فوق ذلك كلّه، يعتبر ان النظام السوري القائم نظام شرعي لا بدّ من التفاوض معه في حال كان مطلوبا البحث في مستقبل الوجود الايراني في سورية. الأكيد ان إسرائيل لم تعترض يوما على شرعية النظام السوري. لو كان لديها ايّ اعتراض على ذلك ولو لم يكن رهانها الدائم على هذا النظام الذي سلّمها الجولان، لما كان مطلبها الأساسي العودة الى اتفاق فك الاشتباك للعام 1974. انّه الاتفاق الذي يبدو ان النظام السوري ليس مستعدا للتخلي عنه في يوم من الايّام نظرا الى انّه يعتبره الضمانة الاولى لبقائه، اقلّه في دمشق.هل يراهن بوتين في نهاية المطاف على صفقة إيرانية - إسرائيلية عنوانها الوجود الايراني في سورية؟ هذا ما يوحي به مضمون كلامه في منتدى «فالداي». ففي نهاية المطاف، يبدو جليّا ان روسيا ليست قادرة على تنفيذ أي تعهد في شأن الوجود الايراني في سورية، وهو وجود غير مرتبط برغبة سورية، كما يفترض. هناك نفوذ إيراني في سورية تحوّل الى امر واقع اكثر من أي شيء آخر. الأكيد ان روسيا تعرف قبل غيرها ان بشّار الأسد ليس والده وان اعتماده على ايران زاد منذ اضطر الى الخروج عسكريا من لبنان في ابريل من العام 2005 نتيجة اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه. ما يتبيّن يوما بعد يوم ان تظاهرة «شكرا سورية» في الثامن من مارس 2005، كانت تظاهرة تستهدف بالفعل شكر النظام السوري على المساهمة في عملية اغتيال رفيق الحريري، وهذا ما اظهره الادعاء العام في المحكمة الدولية الخاصة بلبنان بالادلة الدامغة الشهر الماضي. في الواقع، كان لا بدّ في الثامن من مارس 2005 من توجيه الشكر الى النظام السوري على تخليه عن الوصاية المشتركة، مع ايران، على لبنان وترك «حزب الله» يملأ الفراغ الأمني الذي خلفه انسحابه العسكري من البلد.يعكس كلام فلاديمير بوتين استسلاما لإيران في سورية وتركها تتدبر امرها مع إسرائيل والولايات المتحدة. الاكيد ان الامور لن تتوضح قبل مرور بعض الوقت ومعرفة ما الذي ستفعله روسيا في حال شنت إسرائيل غارات جديدة على مواقع إيرانية في سورية بعد هدنة استمرت منذ منتصف سبتمبر الماضي. ففي منتصف الشهر الماضي، تاريخ اسقاط النظام السوري طائرة «اليوشن - 20» الروسية في اثناء غارة إسرائيلية على مواقع في الساحل السوري، تغيرت طبيعة العلاقات الروسية - الإسرائيلية وذلك بعد سقوط تفاهمات معيّنة. سارعت روسيا الى تحميل إسرائيل مسؤولية سقوط الطائرة التي قتل جميع من كانوا فيها وقررت ارسال منظومة صواريخ «إس - 300» المضادة للطائرات الى سورية. ما الذي ستفعله روسيا في مرحلة معيّنة؟ هل من خيار آخر امامها غير ترتيب اتفاق إيراني - إسرائيلي لا يمكن للولايات المتحدة غير القبول به وبنتائجه؟يبدو مثل هذا الاتفاق المخرج الوحيد لروسيا في سورية، خصوصا ان النظام السوري يسعى بيديه ورجليه الى التأكيد لإسرائيل انّه مع العودة الى اتفاق فك الاشتباك في الجولان. صار عمر هذا الاتفاق الذي اشرف عليه هنري كيسنجر 44 عاما. ما الذي يمنع استمراره 44 عاما أخرى ما دام الجولان المحتل منذ 1967 صار قضية منسية؟تنقص مثل هذا السيناريو، الذي يبحث بوتين من خلاله تأمين النظام في انتظار يوم يستطيع فيه استخدام الورقة السورية في صفقة مع الاميركيين، حلقة واحدة. هذه الحلقة هي الشعب السوري. يفترض في رجل ذكيّ مثل الرئيس الروسي يعرف مواطنيه جيّدا الّا يستخف بالسوريين. لن يقبل السوريون، بأكثريتهم الساحقة، في يوم من الايّام باستمرار النظام القائم حمته إسرائيل ام لم تحمه، توصلت ايران الى تفاهم مع إسرائيل، ام لم تتوصّل. لا يمكن ان تمرّ على أي سوري فكرة إعادة تأهيل النظام. هذا نظام غير قابل للتأهيل بأيّ شكل مهما فعل الروسي والإيراني والإسرائيلي ومهما مارس الاميركي لعبة الانتظار. لا حلّ في سورية قبل رحيل النظام. كلّ ما تبقّى تفاصيل وإضاعة للوقت بغية الوصول الى نتيجة وحيدة هي تفتيت سورية نهائياً. هذا التفتيت الذي يسعى بوتين الى تفاديه يبدو الخيار الوحيد المتاح امامه في حال إصراره على كلام من النوع الذي صدر عنه في منتدى «فالداي» أخيرا عن تحقيق روسيا أهدافها في سورية... وترك امر الوجود الايراني لتفاهمات مع النظام نفسه.
مشاركة :