«حليب أسود» ترجمة أحمد العلي... إليف شافاق وأصواتها الداخلية

  • 10/23/2018
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

لطالما استهوتني الكتب وحلمت أن أعيش في مكتبة أو لأكون أكثر واقعية أن أعمل في مكان ما بين الكتب، فالكتب أصدقاء أوفياء جداً، في صحبتهم دهشة ومتعة لا تضاهيها أي متعة أخرى، وقد تحدثت الكاتبة إليف شافاق عن علاقتها بالكتب فقالت: «تعود صداقتي الحميمة بالكتب منذ اليوم الأول الذي تعلمت فيه القراءة والكتابة، أنقذتني الكتب فقد كنت طفلة انطوائية إلى حد أنني كنت أتحدث مع أقلام التلوين وأعتذر من الأشياء حين أصطدم بها، وهبتني القصص حساً باتصال الأشياء بعضها ببعض بالمركزية والفهم، تنفست الحروف وشربت الكلمات وتقمصت القصص واثقة من قدرتي على أن أميل باللغة وأبرمها بشغف في رقصة التانغو». أهدتها أمها في السابعة عشرة من عمرها دفتراً لتكتب فيه مذكراتها فلم تجد في حياتها شيئاً مثيراً لتكتب عنه، فراحت بدل كتابة يومياتها تخترع شخصيات وتكتب عن حياة الآخرين لتنسل من حياتها وتهرب بعيداً عن واقعها الممل. وكما قال جورج برناردشو: «الإنسان الذي يكتب عن نفسه ووقته الخاص هو الإنسان الوحيد الذي يكتب عن جميع البشر وكل الأوقات»، وهذا ما فعلته الكاتبة التركية إليف شافاق بعد مولد ابنتها الأولى ومعاناتها الشخصية مع اكتئاب ما بعد الولادة لأكثر من عشرة أشهر، نجحت في تخطي فترة الاكتئاب، واستفادت من تلك التجربة العصيبة، وحولت تلك المحنة إلى منحة فكتبت «حليب أسود» الصادرة عن دار مسكيلياني - تونس، ترجمة الشاعر السعودي أحمد العلي، إذ إن الرواية سيرة ذاتية ممزوجة بخيال جميل، تصف اكتئاب ما بعد الولادة والمخاوف التي اعترضت الكاتبة من بداية ارتباطها وزواجها وإنجابها، فالأمومة ليست تجربة إيجابية كاملة ودائمة، إذ تعاني المرأة من الصراعات والمخاوف التي تصيب المرأة المبدعة تحديداً، وخشيتها من توقف حياتها الإبداعية بعد الأمومة، فوصفتها «تلك المعركة التي تخوضينها بداخلك، أطاحت بك أرضاً لكن؛ ستقفين بعدها لتكوني أقوى وأعظم في عين نفسك، إياك أن تستسلمي»، وهذا تأكيد لما كتبه الروائي البرازيلي جورجي أمادو حينما صرح أنه لا يستطيع الكتابة إلا انطلاقاً من تجربة شخصية. إثارة الفضول ما إن تقرأ عنوان الرواية إلا وتتساءل: كيف يكون الحليب أسود؟ ذلك المشروب الذي اعتدنا أن نضرب المثل ببياضه، حتماً تثير مؤلفته الفضول والترقب من خلال عنوان ملون، لكن من هي إليف شافاق؟ هي كاتبة وروائية تركية ولدت في فرنسا ودرست العلوم السياسية ونالت دبلوماً في العلاقات الدولية من جامعة أنقرة، معنى اسمها هو حرف الألف حرفياً أي أول حروف الأبجدية، تكتب باللغتين الإنكليزية والتركية، ومنحها التنقل في الكتابة بين اللغتين رفاهية السفر بين اللغات والثقفات والمدن، فهي حين تكتب باللغة التركية تكتب بعاطفتها، بينما حين تكتب باللغة بالإنكليزية تستخدم عقلية رياضية عملية كما صرحت في أحد اللقاءات: «نحن لسنا أسياد اللغة بل اللغة هي التي تشكلنا وتشكل خيالنا وعقليتنا، فالفرد يتغير مع تغير اللغات، والتفكير بأكثر من لغة يساهم في نحت الخيال»، وهي تعد الروائية الأكثر شعبية في تركيا، حازت جوائز كثيرة منها جائزة ميغلانا التركية المرموقة التي تمنح لأهم رواية خاصة بالأدب الصوفي، وقد ترجمت أعمالها إلى أكثر من ثلاثين لغة عالمية، وتعدت شهرتها حدود تركيا لتصل إلى العالم بأسره وخصوصاً بعد الدعوى التي رفعت ضدها بتهمة إهانة الهوية الوطنية في روايتها «لقيطة إسطنبول»، التي تناولت فيها المجازر ضد الأرمن في عهد الإمبراطورية العثمانية، لتعلن المحكمة براءتها من تلك التهمة بعدما كانت مهددة بالسجن ثلاث سنوات. لم تكتفِ الكاتبة بسرد تجربتها الشخصية فقط، بل استعرضت في صفحات الرواية تجارب كاتبات أخريات من مجتمعات عدة مختلفة وحقب زمنية متعددة، أسهبت في عرض آراء كثيرة، أوضحت من خلالها حيرة المرأة في رغبة الإنجاب من عدمه على لسان عدد من الكاتبات الشهيرات عالمياً، وطرحت تساؤلات كثيرة منها: هل سيتوقف إبداع المرأة بعد الإنجاب؟ هل من الصعب أن تجمع المرأة بين الكتابة والأمومة؟ هل السبب هو طبيعة الكتابة ذاتها حيث تتطلب نوعاً من العزلة والتفرغ فيما لا تستطيع الأم الانعزال عن وليدها؟ هل تنتصر المرأة لموهبتها المتفردة وتتنازل عن أمومتها؟ أم تتصالح مع واقعها لتمسك العصا من المنتصف؟ كل تلك التساؤلات الجوهرية عن علاقة الكاتبات بمجتمعاتهن والدوائر الثقافية من حولهن في المجتمعات كافة بلا استثناء ولا تخص ثقافة دون أخرى، بل هو تراث تشترك فيه كل الكاتبات سواء أعاشت المرأة في الشرق أم في الغرب، تدبير أمور المنزل والتزامات الزواج والحمل والعناية بالأطفال مع رغبة التقدم في المجال العملي، بجانب الإنجاب والأمومة التي ربما تستحوذ على أغلب وقتها، نتيجة وقوع مهمة التربية على عاتق المرأة دون الرجل غالباً، وهو العبء الذي يضاف على عاتق المرأة المبدعة، وكل تلك الأسئلة التي تضج بها الأم الأنثى التي تلد الطفل والأنثى التي تلد الكلمات، هي ذاتها إليف شافاق، وقد وصفتها في روايتها فكتبت «حين يلد الأدب من رحم الأمومة والاكتئاب». العزلة ليست هروباً كما تطرقت الكاتبة الى العزلة فكتبت «عرفت أناساً قد يصابون بالجنون لو تركوا وحدهم ساعات طويلة، وأما أنا فكان الأمر عندي على عكس ذلك تماماً، قد أصاب بالجنون لو أن عليّ مرافقة أناس لوقت مديد سأفقد عزلتي»، فالعزلة جزء ملازم لكينونة الإنسان بشكل عام، فهي تعيد تنظيم المسافة بين الذات وبين البشر والأشياء، وكما يقول نيكوس كزانزاكيس في رواية زوربا: «العزلة ليست هروباً إنما خيار واعٍ»، فقد تكون المرأة أماً وابنة وعاملة وفنانة وكاتبة أو جميعها في الوقت ذاته، فيحدث أن ترتبك تلك الأدوار وتتداخل، حينها نتوه ونفقد بوصلتنا وتركيزنا وقدرتنا على القيام بتلك المهمات دفعة واحدة، فصراع الأدوار الذي تتعرض له المرأة وصخب الأصوات الداخلية الذي سمَّته شفق في روايتها حليباً أسود «جوقة أصوات الفوضى» الجزء المبدع والأهم في الرواية. استطاعت إليف شافاق وصف تلك الأصوات الداخلية كشخصيات مستقلة هن في الواقع جوانبها المتعددة والمتناقضة التي تتشكل منها شخصيتها، تتنازع لفرض سطوتها علينا نحن النساء، طبيعتنا البشرية وكل ما نحمله من آراء مختلفة لنفس الموضوع لكن من زوايا متعددة في صراع مع الآخر، صورت تلك الأصوات من نساء صغيرات بحجم الإصبع تشبه أفلام الكرتون التي تصور الأفكار كالبشر، لكل منهن شخصية مستقلة وملامح خاصة أجادت وصفهم بدقة، وجعلتنا نتعاطف معهن، وقد بدأت بأربع شخصيات ثم أصبحوا ست شخصيات على مدى الرواية، وكان أجمل ما في الرواية هو الحوار الذي تقيمه مع ذواتها الست، فالكاتبة صريحة في مواجهة مخاوفها ورغباتها وشكوكها وتناقضاتها. إليف تجعل القارئ يفكر، وهذا ما يميز كتاباتها، فهي لا تضع حلاً واضحاً وصريحاً في الرواية، هي تطرح الأسئلة وتجعلك تنظر للموضوع من جهات عدة مختلفة، هل تقف الأمومة في وجه المرأة المبدعة؟ هل الزواج والحب ضروري للمرأة المبدعة أم تحتاج للتفرغ لإبداعها وحياتها العملية؟ وما نوع التضحيات التي يجب أن تقدمها المرأة في سبيل الاستمرار لتحقيق طموحها والعطاء في حياتها الاجتماعية؟ كثيرة هي التساؤلات التي تترك المجال للقارئ كي يتفاعل مع الكتاب ويفكر ويكوّن رأيه الخاص ولا يكون مجرد متفرج لأحداث الرواية. معاناة المرأة على رغم أن الرواية تتحدث عن اكتئاب ما بعد الولادة تحديداً، فقد قدمت وصفاً دقيقاً لمعاناة المرأة بشكل عام، والحل الذي عرضته في نهاية روايتها هو الديموقراطية بين تلك الأصوات الداخلية، وخلق حالة من التوازن، حيث إن وقت الإبداع الذي يشبه حالة المخاض يحتاج لتهيئة نفسية خاصه به، وتأجيل بعض المسؤوليات لحين الولادة الإبداعية، وضرورة إعطاء كل واحدة من تلك الشخصيات التي بداخلنا دورها في وقتها المناسب ثم العودة الى الإبداع والانطلاق في الحياة، الحل هو تأجيل بعض الأحلام لحين تحقيق أحلام أخرى، وقد جاء على لسان إحدى شخصياتها الخيالية: «لا يهم ما إذا كنت قد أنجبت أطفالاً أم كتبت كتاباً أو بعت الفطائر في الشارع أو وقعت عقد عمل بمليون دولار، ما يهم هو أن تكوني سعيدة ومكتفية من الداخل». باختصار إليف شافاق روائية سعدت بصحبتها جداً، شخصية الكاتبة فيها الكثير من الغنى المعرفي والثقافي واللغوي والإنساني، مع سمة الانفتاح على الآخر الذي يميز أعمالها وشخصيتها، وقد تحدث الكاتب حسن مدن في «الكتابة بحبر أسود» عن روح الكتابة فقال: «إن روح الكاتب تكون في اعترافاته، وتدفقاته التي تنساب أمامنا ونحن نطالع نصه، وتصبح الكتابة نابضة بالحياة حين يتحرر الكاتب من أقنعة فرضت عليه أو تقمصها، وتبدو الكتابة مختلفة حين تغوص في أعماق الروح في ردهاتها التي لا يبلغها الجميع، فيما لا تغدو كذلك حين تقف عند حدود السطح، عند القشرة الخارجية للأشياء والظواهر، فلا تغور داخل النفس ولا تلامس الوتر الرهيف فيها»، وروح إليف شافاق خاطبتني بصورة مباشرة، وأحببت نساءها الصغيرات وأصواتهن المتداخلة، وقد هزتني في قولها: «لا تهتمي أين سيقودك الطريق، بل ركزي على الخطوة الأولى فهي أصعب خطوة، يجب أن تتحملي مسؤوليتها، وما إن تتخذي تلك الخطوة دعي كل شيء يجري بشكل طبيعي، وسيأتي كل شيء من تلقاء نفسه، لا تسيري مع التيار بل كوني أنتي التيار»، تلك الجملة كانت كفيلة ببث طاقة من النشاط والهمة لنصبح ما وصفتنا إليف به وهو «التيار»، تقول لين تيلمان في كتابها أتغير: «لا أحد يسلحك لتصبح فناناً أو كاتباً، غالباً يثنونك عن ذلك» لكن ما إن تصدق أنه من الممكن أن تكون أنت التيار وتلك القوة للتغير إلا وتنطلق لتحقيق أحلامك بفرح وقناعة بالنجاح.

مشاركة :