بدت مذكرات الكاتبة التركية إليف شافاق «حليب أسود»، التي ترجمها أحمد العلي لدار مسكيلياني في تونس، كما لو أنها عمل روائي مكتمل الأركان، إذ خلطت فيها ما بين الوقائعي والفانتازي، وخلقت لها شخوصاً شغلتهم بالصراع طيلة النص على من يمكنه الهيمنة والسيطرة وفرض الرؤية والرأي، ما خلَّصها من ثقل السرد اليومي وذكر الوقائع الثابتة والمعتادة، وفتح آفاق السرد تجاه عوالم أكثر طرافة وقدرة على جذب قارئ لا يجد جديداً في الحكي عن تجربة الزواج والإنجاب والأمومة. لكن شافاق بذكائها الفطري كروائية وباحثة، لم تترك عملها يأتي كنوع من التسلية، فعكفت على رصد العديد من النماذج النسوية التي عانت من التجربة الكبرى في حياة أي امرأة، وهي التحول إلى أم والالتزام بمسؤولية رعاية المؤسسة الأولى في بناء أي مجتمع، ومن ثم تدفقات القراءات المتوازية مع حالتها بدءاً من كونها فتاة مثقفة ومتحررة وذات أفكار يسارية معارضة، وصولاً إلى بزوغ فكرة الزواج في رأسها، وكيف تعاملت معها وأشباح التجارب الأليمة التي أحاطتها، وفي النهاية كيف دخلت إلى هذا العالم وكيف أنجبت وتحملت مسؤوليتها كأُم في موازاة حضورها الطاغي ككاتبة ومحاضِرة في واحدة من كبرى الجامعات الأميركية. يضعنا العنوان الصادم «حليب أسود» أمام مفارقة الجمع بين نقيضين، إذ إن الحليب هو أشهر رموز اللون الأبيض، ويرمز به دائماً إلى نقاء القلوب والأمنيات السعيدة، لكن شافاق تصفه بالسواد وكأنها تبلغنا بحدوث الكارثة التي تحتاج إلى معجزة كبرى لتغييرها. ولتأكيد توصيفها الذي يصيب بالتشاؤم، تدخل بنا إلى هواجسها السيئة، فكرة الزواج والانسحاق في مؤسسة اجتماعية تأخذ من المرأة كل وجودها ولا تعطيها غير الآلام والمزيد من الموات لمصلحة الآخرين. وعادة ما يكون الزوج هو هذا الآخر الذي يمتص دماء زوجته كي يزداد علواً وارتفاعاً كلما زادت هي تلاشياً واختفاءً من الوجود. ومن أجل أن تثبت هواجسها السوداوية، فإنها تحدثنا عن العديد من النماذج الزوجية السيئة في تاريخ الأدب، في مقدمها صوفيا أندريفنا التي تزوجها تولستوي عام 1862 وهي تصغره بنحو ستة عشر عاماً. هذا الزواج الذي عرف لدى الأدباء بأنه الأتعس، فقد قضت صوفيا الشطر الأكبر من شبابها إما حاملاً أو مرضعاً، إذ إنها أنجبت وفق بعض الروايات 19 طفلاً، توفي خمسة منهم. وفي الوقت ذاته عملت كسكرتيرة لتولستوي في نسخ مسوَّدات أعماله. ولم يمنع ذلك تولستوي من أن يصفها بالمزعجة، وأن يفاجئها بالتنازل عن كل ثروته من أجل الفقراء، ليتحول من نبيل يكتب الأدب إلى مُعدَم يعاني من لدغات البراغيث. وزاد في معاملته السيئة لها بأن طلَّقها سراً، وأن وهب قبل مماته بشهور حقوق نشر رواياته لمحرره، أو على الأقل هذا ما تؤكده شافاق، وربما لا يكون دقيقاً. في المقابل؛ عاشت الكاتبة زيلدا فيتزغرالد حياتَها على الحافة منذ وقفت في طفولتها على سطح أحد المنازل متظاهرة بالإقدام على الانتحار لجذب انتباه المحيطين بها. تزوجت زيلدا من الروائي سكوت فيتزغرالد؛ صاحب رواية «جاتيسبي العظيم»، فتنازلت عن اسم عائلتها لتحمل اسمه. وعلى رغم أنها كانت موهبة كبيرة في عالم الأدب، إلا أن الحياة القلقة التي عاشتها مع زوجها، ساهمت في زيادة توتراتها حتى ماتت في مصحة عقلية وهي موقنة أن بعضاً من صفحات أعمالها تسربت إلى كتب زوجها. حافظت شافاق على طزاجة الحكي وحيويته عبر العديد من الطرائق المبتكرة في السرد، فقد اخترعت ما سمته بجوقة أصوات الفوضى، وهي مجموعة السيدات اللائي يمثلن تباينات شخصيتها وتوزع اهتماماتها، فقدمت شخصية المرأة المثقفة والمرأة التشيخوفية المتكبرة والتي تبدو كما لو أنها خرجت من إحدى أعمال الكاتب الروسي الشهير إلى الواقع، والمرأة اليسارية المنحازة إلى الأقليات والأفكار الوجودية، وهي الشخصية التي ساعدتها على إنجاز روايتها «لقيطة إسطنبول» عن الأرمن والعدوان التركي عليهم. أما شخصية السيدة الدرويشة، التي تميل إلى التصوف والاعتزال ومحبة الأفكار الروحية الكبرى، فقد ساعدتها على إنجاز روايتها الأشهر «قواعد العشق الأربعون»، عن جلال الدين الرومي وشمس التبريزي. الشخصية الأخيرة؛ منحتها شافاق اسم «ماما الرز باللبن»، وهي شخصية ربة المنزل ذات النزوع إلى الحياة المستقرة الآمنة في ظل زوج يحميها ويؤمن لها تكاليف الحياة. وعلى رغم أن هذه هي الشخصية الأهم في النص، نظراً إلى أنه يناقش فكرتها التي انتصرت على أفكار ورؤى الأخريات، إلا أنها لم تظهر إلا في منتصف العمل. ربما تأخر حضورها لرغبة شافاق في إظهار مدى قوة الشخصيات الأخرى، فضلاً عن أن الانحياز لها من الصفحات الأولى يهدد فكرة الصراع والتشويق، ومن ثم سمحت للشخصيات الأخرى بأن يقمن بانقلاب ضدها؛ هي ككاتبة أو كشخصية روائية في النص، معلنين فرضهم الدكتاتورية والحكم العسكري الملزم بالسفر إلى أميركا واستعمال التعليم في كلية تلة هوليوك، ثم العمل بعد ذلك محاضرة في جامعة متشغين. وجاء هذا الانقلاب تحديداً بعدما لمحن ظهور شخصية «ماما الأرز باللبن»، حين وقعت عين الكاتبة على طفل رضيع بين يدي أمه. وعلى رغم نجاح الانقلاب، إلا أن «ماما الرز باللبن» استطاعت الذهاب معها إلى أميركا، كاسرة الحصار المضروب على الكاتبة، وسرعان ما ساعدتها على استقبال حب «أيوب تود» والتفاعل معه. وعلى رغم تأخر فعل الزواج إلى ما بعد العودة إلى اسطنبول، إلا أن «ماما الرز» باللبن دفعتها إلى أن تقوم بالدور الإيجابي القوي في أي علاقة زوجية، ففاجأت «أيوب تود» بأنها طلبته هي للزواج، وكأن شافاق رغبت في إجراء تعديل تعويضي للمرأة، فربما جعلها هي صاحبة المبادرة في طلب الزواج يمكِّنها من فرض سيطرتها بما يجنبها ما آلت إليه كل من صوفيا أندريفنا وزيلدا فيتزغرالد. لا تعد «حليب أسود»، مجرد سيرة ذاتية عن كاتبة دخلت إلى عالم الحياة الزوجية وأصبحت أماً لطفلة؛ «شهرزاد» وطفل «أمير»، بقدر ما هي سيرة لتاريخ العلاقة بين المرأة الكاتبة والرجل في ظل حياة اجتماعية تنحاز إلى الرجل طيلة الوقت على حساب زوجته. ومن ثم فقد رفضت الكثير من الكاتبات الدخول إلى هذا العالم، كي لا يتحولن إلى نماذج تعسة تتغذى على الحليب الأسود نفسه. ومن ثم أفرطت في استعراض معرفتها بالسير الذاتية لغالبية كاتبات الغرب وما جرى لهن، بدءاً من اللائي رفضن الدخول في مؤسسة الزواج، مروراً باللائي فضلن أن يكن سحاقيات كي لا ينخرطن في الإنجاب أو يدخلن في طور الأمومة وحليبها القاسي، وصولاً إلى اللائي دخلن هذه المؤسسة وخسرن كل أحلامهن في التحقق والاستقلال. ومن ثم احتدم طيلة النص الصراع بين شخصيات شافاق وما يمثلنه من أفكارها المتابينة، لكنها في النهاية انحازت إلى «ماما الرز باللبن» ودخلت إلى عالم الحياة الزوجية بحليبها الأبيض، لكنه لا يخلو من شوائب قد توصله في بعض الأحيان إلى اللون الأسود.
مشاركة :