كما قلت مرارا في مقالاتي هنا فإنني كثير التطرق إلى مسألة التعليم الأكاديمي لأنني «أفهم فيه» بعض الشيء لأنني خضعت لتدريب مكثف لتأهيلي كمدرس، ولأنني مثل كثيرين غيري أدرك أن التعليم هو قوام التنمية البشرية والتي بدونه تكون التنمية الاقتصادية مجرد هوجة أرقام قد ترتفع مؤشراتها حينا من الدهر ولكنها تنزل إلى أسفل سافلين إذا لم تكن مسنودة ببنية تحتية قوية من المواطنين المستنيرين أي حسني التعليم. وبحكم أنني طالب ومعلم مدرسة سابق وصحفي «حالي» مهمته رصد أحوال الكون من حوله، وبحكم أن قلبي على أهلي ويؤلمني سوء حالهم وبؤس مآلهم بسبب بؤس مدخلات التعليم ومخرجاته، فلن أكِلّ أو أملّ من الخوض في شؤون التعليم وإدانة النظام التعليمي العربي، لأن الموجوعين بهذا الأمر من ذوي الخبرة الطويلة في مجالات التربية والتعليم لا يملكون المنابر التي تتوافر لي ككاتب عمود صحفي ليرفعوا أصواتهم بالاحتجاج على حال التعليم المائل ثم يقترحوا الجيد من البدائل. وأهدي إليكم مجددا- وربما للمرة العاشرة هنا في أخبار الخليج، حكاية ذات دلالات بليغة تؤكد أن التعليم بمختلف درجاته عندنا في حالة موت دماغي، فقبل سنوات قليلة، وقف طفل مصري في الحادية عشرة، أمام موظفة شركة مصر للطيران في الإسكندرية، وطلب منها تذكرة سفر إلى كندا، فسألته الموظفة عن الباسبور فقال لها: هو ده يا طنط، وقلبت طنط أوراق جواز السفر فوجدته خاصا بأم الطفل ووجدت اسمه مضافا فيه، فسألته: مسافر لوحدك قال: آآآآ!! عندك فيزا دخول كندا؟ قال: فيزا يعني إيه؟ طب فين فلوس التذكرة؟ هنا وضع الطفل أمامها رزمة مؤلفة من ثلاثة آلاف جنيه (لم يكن الجنيه المصري وقتها قد تعلم العوم ومع هذا كان قوي البنية)، هنا نسيت الموظفة التوجيهات التي تقضي بأن تعيد للزبون نقوده وجواز سفره لأنه لا يملك تأشيرة دخول إلى كندا، وتقول له: أدينا عرض أكتافك، بعد أن استيقظت فيها غريزة الأمومة التي تتمتع بها كل أنثى حتى لو كانت في الرابعة من العمر، وسألته: انت في سنة كام يا شاطر؟ فقال انه في الصف الخامس!! عايز تروح كندا ليه؟ عايز أدرس هناك!! طب ليه ما تدرسش هنا؟.. الله يخليكي يا طنط أديني التذكرة،.. مش عايز ادرس هنا.. أصلهم بيضربونا ويشتمونا لو ما حفظناش الدروس!! ماما عارفة إنك مسافر؟ في الحقيقة هي ما بتعرفش أوي.. بس حتعرف لأني سبت رسالة في البيت بقول لها باي باي وأوعدها بأني حارسل لها جواب كل يوم، ثم واصل تزويد طنط مصر للطيران بتفاصيل ما حدث: ماما طلعت الشغل قمت شلت الباسبور، ولقيت في الدولاب فلوس كتيييرة وخدتها عشان أروح كندا.. بيقولوا مدارسها حلوة وما بيضربوش فيها العيال. هذا الطفل المصري «نابغة»، عرف وهو في تلك السن الغضة، أن التعليم في بلده فيه الكثير من «التأليم» والأذى الجسيم، ولم يفكر النابغة في الهرب إلى الشوارع أو إلى بعض أقاربه في مدينة أو قرية أخرى، بل قرر الذهاب إلى بلد آخر يتلقى فيه تعليما حقيقيا. ومن المهم أن ننتبه إلى انه كان يود لو ينتمي إلى أقلية ضئيلة العدد تسافر إلى الغرب ليس بغرض «الصرمحة والصياعة»، كما يفعل كثيرون ممن يطلبون «اللجوء السياسي» في الغرب، بل للحصول على اللجوء الدراسي. ووصفت الطفل بالنابغة، لأنه وبعبارات قصيرة مكثفة قال في إدانة نظامنا التعليمي ما عجز عن قوله خبراء اليونسكو وجيوش الموجهين التربويين وخبراء المناهج. طفل ذكي يريد استخدام عقله ويريد ان يعرف ما معنى ان الماء يتكون من عنصرين من الهيدروجين وعنصر واحد من الأوكسجين، وهل سيتحول الماء إلى قنبلة هيدروجينية لو وضعنا فيه خمسة عناصر هيدروجين إضافية! باختصار أدرك النابغة المصري انه كان في مدرسة شكلا و«سيرك» محتوى، يقوم فيه المعلم بدور مروض الوحوش، وأدرك أنه آدمي ينبغي ان يكون في مدرسة لبني البشر لا يعامله فيها المدرسون كما وأنه من فصيلة البقر. (عنوان المقال مثل خليجي عن أن كثرة الدق/ الطَرق يفك اللحام).
مشاركة :