د. نسيم الخوري بلغ الشدّ بحبال الحكم في لبنان حدوداً خطيرة بين الرئاستين الأولى في بعبدا والثانية في عين التينة. تختلف القراءات لكنها تُجمع على أنّ الكيمياء تكاد تكون مفقودة أساساً بين رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس مجلس النوّاب نبيه برّي. قد يفسّر البعض هذا الانشداد بأنّه من لوازم التحضير الطبيعية للانتخابات البرلمانية في أيّار/مايو المقبل لمجلسٍ مدّد لولايته مرّتين، ممّا يشدّ العصبيّتين المسيحية والشيعية والوطنية التي ستراكم أصوات الناخبين في صناديق الاقتراع لترسم صورة لبنان الجديد. الطائف حصيلة تفاهم المحاور المارونية والسنية والشيعية أي مثلث متساوي الأضلاع تشوّه عند التطبيق فصار مربعاً أو مسدّساً أخضعت له الطوائف الأخرى ووزع النواب والوزراء جوائز ترضية. لم يعد لشكل الحكم ملامح واضحة، وكأنّ النصوص الدستورية قائمة ومكتوبة مع وقف التنفيذ. وإذا كان لكل اتفاق في الدنيا روح ونص، فالنص حقل اجتهادات لم يتوضح لا في اتفاق الطائف ولا بعده في الممارسة، أما الروح فغائبة وطنياً وطاغية طائفياً.وهنا استنتاجات من المقال والمستور:1- ثمة إجماع عند اللبنانيين من مختلف الطوائف من أن الدولة لم تقم بعد ويجب أن تقوم، ولأن المستقبل غامض ومثقل بالديون ولبنان انتظر ما يكفي من هذه المآزم سياسياً واقتصادياً، فما نُفذ من الدستور قد نفّذ وما لم ينفذ سقط بضرورة تعديل النص إن استحال البحث عن نص جديد كونه يعيد فكرة الحروب الأهلية.ترتفع وستقوى الأصوات المطالبة بالمواطنة والتغيير وبتعديلات جذرية في الدستور وتوزيع الصلاحيات، وهذا حقّ لأنّ الدساتير ليست نصوصاً مقدّسة ولأنّ الآليات الواردة في الدستور اللبناني نفسه تحوّلت إلى وجهات نظر ومواقف متباعدة تدعو من ناحية إلى احتساب أعداد اللبنانيين تقابلها أصوات وهواجس تقول بالتوافقية لا بالعددية يحكم لبنان. أصبح الدستور اتفاقاً وكأنّه مات وطنياً منذ ولادته القيصرية بفعل الممارسات القسرية التي تجعل من نصوصه مادةً قابلة للتفجير ووطناً قيصرياً في آن.هذا الانشداد المتنامي منذ الـ2005، تاريخ الخروج السوري من لبنان بعد اغتيال رفيق الحريري،يستمرّ محكوماً بمعضلة التوطين الفلسطيني ومعضلة النازحين السوريين الضخمة إلى المعضلة الاقتصادية.2- داوى السلم المنبثق من الطائف جروح اللبنانيين لكنه لم يجعل الدماء الكثيرة تسودّ في جراحهم وهو لم يولد التفاعل الحضاري الديمقراطي، ولم يدخل سوى التقاتل على الحصص والمواقع في صلب المؤسسات الدستورية والإدارية المنبعثة من تحت الركام بعد شللها ولا يحظى بها سوى مطأطئي الرؤوس أمام زعماء الطوائف. كانت النتيجة اهتراءً كاملاً لأن الوطن دخل شكلياً في جمهورية جديدة لكنه مطبّع بتقليدية طائفية ومناطقية هائلة في الحكم الممعن بالفساد جعلت الشروخ كبيرة مع الناس، ورفضت الأجيال الجديدة النظام القائم وأعرضت وتعرض عن ممثليه، وباتت تنظر إليه تجمع سياسيين يتقاسمون الوطن. يشعر الناس وكأن الوطن القسري بات مؤقتاً أو مرحلياً في انتظار ظروف مستجدة يعود أطراف النزاع إلى المناصب والمطالب والطروحات نفسها وكأننا في النقطة الصفر! 3- يفقد الدستور ذخائره الإقليمية والدولية وتوافقيته المفروضة بين الأطراف والطوائف مع أنّ الجنرال ميشال عون رفضه أساساً. لقد أورث منطق التسوية التوفيقي التنازل عن أجزاء من الصلاحيات وتوزيع السلطة مغانم ومكاسب وحصصاً في ما بين الطوائف. لم تتغير الملاحظات الرافضة لاتفاق الطائف. يتوزّع لبنان مجدداً إذن بين من يعارض الوطن ويطالب بالسلطة أو يعارض السلطات كلها مطالباً بالوطن أو يعارض الاثنين معاً أو يقبلهما أو أنه خارج هذه الدوائر كلّها وفي حال من اليأس من عدم الوفاق الوطني الذي أورث مشاعر مثل تبادل الإحباط والانكفاء وعدم المشاركة مقابل التفرد والفجور والإلغاء والاستقواء والاستعداء إن لم نقل الاستجداء في الحصول على الحصص والمناصب! 4- إنّ المرجعيات الوطنية، وبسبب من عدم الوفاق التاريخي، وخصوصاً في الصف المسيحي كانت وما زالت ربّما محكومة بالضياع والتمزق والتشويش لكنّ وضعها يقارب الوعي اليوم بعدما حصرت المسؤولية في من أقصىاهم ويقصيهم وفي بعض المسيحيين أنفسهم . كان لبنان الرقم الصعب لأن دولاً إقليمية شاءت الاستفادة منه في إطار التحضير للمسألة الشرقية لمصالحها، وكان واجهة للغرب على المنطقة لكن المنطقة كلّها أصبحت واجهة الغرب، إذ لم يعد هناك من شرق بالمعنى الغربي للكلمة. تحوّل وطنهم إلى ورقة يكتب فوقها الآخرون ومن يقرأ في اللامقال والتطلعات للبنانيين من خارج الدوائر المذهبية والطائفية يجد صورة لبنان نقطة تلاقٍ أخيرة نموذجية لكلّ المكونات الوطنية القائلة بلبنان أوّلاً. drnassim@hotmail.com
مشاركة :