القوة العسكرية بما فيها النووية هل تكفي لتصبح روسيا دولة عظمى؟

  • 10/27/2018
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

استعادت روسيا منذ الحرب الروسية – الجيورجية عام 2008 بعض النفوذ الذي كان لموسكو في المحيط السوفياتي السابق، في قرغيزيا وأوزبكستان وتركمانستان، وإلى حد أقل في أذربيجان. انتخب رئيس موال لموسكو في أوكرانيا عام 2010 ولكن الثورة التي حدثت ضده قادت لإطاحته في شباط (فبراير) 2014 ما دفع الكرملين لدعم تمرد الأقلية الروسية في الشرق الأوكراني، وللاتجاه نحو ضم شبه جزيرة القرم. في دول البلطيق الثلاث، التي انضمت إلى حلف الأطلسي، كان الفشل الروسي واضحاً في محاولة استعادة النفوذ. ظلت جمهوريات سوفياتية سابقة (كازاكستان، طاجيكستان، بيلاروسيا، أرمينيا) على الولاء لموسكو، فيما تأرجحت مولدافيا في توازن قلق بين يمين يميل للغرب ويسار شيوعي- اشتراكي موال لموسكو، من دون حسم لهذا التأرجح. لما فشلت روسيا في إخضاع جيورجيا في حرب 2008 اتجهت نحو فصل أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا عن سلطة العاصمة الجيورجية وإخضاعهما للنفوذ الروسي. هناك عقد كامل من الزمن فاصل عن الحرب الروسية – الجيورجية، التي كانت بداية جهد الكرملين لاستعادة النفوذ في «الحدائق السوفياتية السابقة». تعطي نتائج هذا الجهد الروسي صورة عن حدود قوة الكرملين المعاصر: هناك موازنة أميركية، في النفوذ السياسي والاقتصادي، تصل إلى حدود موازاة القوة الروسية في الكثير من الجمهوريات السوفياتية السابقة، في أوزبكستان، قيرغيزيا، تركمانستان، وأذربيجان، وهناك تفوق أميركي بالنفوذ على موسكو في جمهوريات البلطيق الثلاث وفي أوكرانيا وجيورجيا. هناك تفوق صيني اقتصادي على موسكو في الجمهوريات السوفياتية الوسط آسيوية (قرغيزيا- كازاكستان- طاجيكستان). هناك علاقات ثقافية لتركيا مع الجمهوريات السوفياتية المسلمة السابقة (ما عدا طاجيكستان ذات الثقافة الفارسية) أقوى من علاقات هذه الجمهوريات بالعالم الثقافي الروسي. لم تستطع روسيا أن تستعيد النفوذ لدى دول حلف وارسو السابق زمن السوفيات، بل هناك حالة عدائية تجاه الروس. هناك غرابة في أن العاصمة اليوغوسلافية السابقة التي قالت بالحياد بين موسكو وواشنطن في زمن تيتو، أي بلغراد، تميل الآن إلى موسكو سياسياً وثقافياً في إطار المدار السلافي- الأرثوذكسي بعد أن سيطر عليها القوميون الصرب منذ عام 1990 مع سلوبودان ميلوسيفيتش والذي دخل في مواجهات مريرة مع الغرب في البوسنة وكوسوفو. يؤشر كل ما سبق إلى حدود القوة الروسية: دولة كبرى في المحيط الإقليمي، وليست دولة كبرى من حيث التأثير في المحيط العالمي مثل فرنسا في زمن ديغول (1958- 1969) قادرة على تحدي ومحاولة زعزعة الثنائية القطبية العالمية للبيت الأبيض والكرملين في زمن الحرب الباردة، ولا دولة عظمى كما كان الاتحاد السوفياتي في أثناء الحرب الباردة (1947- 1989). يبدو أن الكرملين في حالة إدراك لهذا، لذلك جرت محاولات لتثقيل الدور الروسي من خلال إنشاء (مجموعة دول البريكس: روسيا- الصين- الهند – البرازيل) عام 2009 قبل انضمام جنوب إفريقيا في العام التالي. فشلت «البريكس» بسبب التناقضات الصينية- الهندية وبسبب سقوط حكم اليسار في البرازيل. الآن تجري محاولات جديدة لتثقيل الدور الروسي عبر ثالوث سوتشي: روسيا- إيران- تركيا، ولكن ليس عالمياً كما محاولة «البريكس»، وإنما في محيط إقليم الشرق الأوسط وبالذات في الموضوع السوري، في استغلال من الكرملين للمجابهة الأميركية- الإيرانية في عهد ترامب، وللخلاف التباعدي بين واشنطن وأنقرة البادئ عام 2013 ثم المتصاعد منذ خريف 2014 مع المراهنة الاعتمادية لواشنطن على (حزب الاتحاد الديموقراطي- pyd) الذي هو بمثابة فرع سوري لحزب العمال الكردستاني- pkk. لم يستطع الوجود العسكري الروسي في سورية منذ عام 2015 أن ينقل موسكو إلى وضعية القوة العالمية، بل جعلها لاعباً مهماً في الأزمة السورية اضطرت قوى إقليمية شرق أوسطية، مثل تركيا وإسرائيل، للتقارب مع الروس بحكم ذلك الوجود، وهذا ما جعل روسيا أبعد قليلاً من دولة كبرى في محيطها الإقليمي الخاص. ردت واشنطن على موسكو بتمدداتها الجغرافية والسياسية في أوكرانيا عام 2014 من خلال «كعب «أخيل الروس»، أي الاقتصاد. تبقى التقاربات الروسية – الصينية هي المدخل الوحيد لموسكو لكي تملك مفتاحاً للتأثير العالمي ولتشكيل قوة قطبية جديدة، ولكن حتى الآن لم تقترب علاقات موسكو وبكين إلى حدود التحالف، وإذا حصل ذلك ستكون موسكو الطرف الأضعف في التحالف الثنائي مع بكين بحكم الاقتصاد، الذي منذ انتصار الرومان على المصريين في معركة أكتيوم عام 31 قبل الميلاد هو المحدد الرئيسي للقوة العظمى في العالم أو للقوة الكبرى ذات التأثير في المحيط العالمي، والقوة العسكرية في الحالتين تأتي ترجمة للاقتصاد. حتى عام 2018 ما زالت روسيا هي القوة العسكرية العالمية الثانية بعد الولايات المتحدة الأميركية وهذا يشمل الأسلحة التقليدية والنووية. الصين في المرتبة الثالثة ثم الهند. الموازنة العسكرية الأميركية هي 587 بليون دولار فيما الروس ينفقون فقط 44 بليوناً. الإنفاق الصيني العسكري 161 بليوناً والهندي 51 بليوناً. الأميركيون في المرتبة الأولى اقتصادياً (19390 بليوناً) ثم الصين (12589) والهند في المركز السادس. الروس، وهذا في مقاييس صندوق النقد الدولي عن أواخر عام 2017، يحتلون المركز الثاني عشر من حيث القوة الاقتصادية العالمية (1527 بليوناً كناتج محلي اجمالي) وراء كوريا الجنوبية وكندا وإيطاليا والبرازيل وفرنسا والهند وبريطانيا وألمانيا واليابان والصين والولايات المتحدة. عندما كان الاتحاد السوفياتي يتنافس على زعامة العالم في الحرب الباردة أيديولوجياً وسياسياً وعسكرياً كان هو القوة الاقتصادية الثانية عالمياً بعد الولايات المتحدة. ظل هو القوة العسكرية الثانية حتى قبل وبعد هزيمته أمام واشنطن في الحرب الباردة عالمياً في عام 1989 ولكنه كان منذ النصف الثاني من الثمانينات قد تراجع للمرتبة الثالثة في الاقتصاد العالمي مخلياً المرتبة الثانية لليابانيين. كانت هزيمة موسكو أمام واشنطن بسبب عدم قدرتها على المجاراة الاقتصادية في السباق العسكري بعد طرح الرئيس الأميركي مبادرة الدفاع الإستراتيجية - حرب النجوم عام 1983، التي جعلت ممكناً كسر التعادل النووي بين العملاقين. الضعف الاقتصادي أنتج هزيمة أيديولوجية- سياسية، قادت لفقدان موسكو نفوذها العالمي والإقليمي عام 1989 ثم لتفكك داخلي للاتحاد السوفياتي عام 1991. ترافق هذا مع بقاء القوة العسكرية الروسية بفرعيها النووي والتقليدي على حالها. هنا، بعد هزيمة الإسبان في معركة الأرمادا عام 1588 أمام الإنكليز تحولت لندن إلى سيدة المحيطات وعاصمة التجارة العالمية والمعاملات المالية العالمية. هذا جعلها الدولة الأعظم في العالم. في حربي (1756-1763) و (1799-1815) كان الاقتصاد المتفوق للبريطانيين هو الذي جعل ممكناً هزيمة الفرنسيين في تينك الحربين. منذ ثلاثينات القرن العشرين بدأ يظهر تفوق المنتوجات الأميركية على البريطانية. هذا أعلن عن بدء انتقال مركز الاقتصاد العالمي من لندن إلى نيويورك. لم يكن صدفة أن يصبح أيزنهاور قائداً لجيوش الحلفاء في الحرب العالمية الثانية ضد الألمان وأن يكون مونتغمري نائبه. كان أيزنهاور الترجمة الأولى عسكرياً ضد هتلر ثم انتقل هذا بعد الحرب لكي تصبح واشنطن زعيمة المعسكر الغربي في الحرب والسياسة (حلف الأطلسي) ضد السوفيات. تشبه الصين في العقدين الأولين من القرن الحادي والعشرين في القوة الاقتصادية ما كانته الولايات المتحدة في الثلاثينات. سيترجم هذا حتماً في السياسة والصعيد العسكري وبعدهما على الأرجح في الثقافة. الصين الآن في وضعية قوة عظمى على الصعيد الاقتصادي العالمي، وهذا يؤهلها لأن تكون في وضعية الصراع لأن تكون دولة عظمى علمياً وتكنولوجياً ومن ثم سياسياً وعسكرياً. هي الآن في وضعية دولة كبرى على الصعيد العالمي. تأثيراتها بدأت تتضح في منطقة شرق آسيا والباسفيك، وهي الآن الشريك الاقتصادي الأكبر للقارة الإفريقية. ليس المرجح أن تكون واشنطن في النصف الأول من القرن الحادي والعشرين في وضعية لندن التي أنهكتها حربان عالميتان وأزمة 1929- 1932 الاقتصادية ومن ثم فقدان المستعمرات في الأربعينات والخمسينات. على رغم هذا، منذ تسعينات القرن العشرين مع بيل كلينتون هناك شعور سائد في واشنطن بأن الخطر الصيني هو الرئيسي على وضعية القطب الأميركي الواحد للعالم، القائمة حتى الآن منذ عام 1989 على رغم تعثرات واشنطن في إدارة العالم، وليس الخطر الروسي.

مشاركة :