كتبت كثيرا من المقالات عن أفغانستان وتطورات الأحداث فيها منذ أن كانت باكستان المجاورة منصة انطلاق لما عُرف بحرب الجهاد ضد الغزاة السوفييت. كما كتبت عديدا من المقالات التعريفية بسيرة لوردات الحرب والدمار، ابتداء بقلب الدين حكمتيار، وعبدالرسول سياف، وبرهان الدين رباني، وأحمد شاه مسعود، وانتهاء بزعيم طالبان الملا محمد عمر آخوندزادة، لكني أجد نفسي اليوم عاجزا عن تحليل الأوضاع الحالية في هذا البلد المنكوب، الذي تحاول كل القوى الإقليمية والدولية أن يكون لها فيه موطئ قدم. ومرد عجزي هو اختلاط الحابل بالنابل، وتناقض مواقف الدول والحكومات المعنية بالشأن الأفغاني. ففي الوقت الذي لا تتوقف فيه هجمات ميليشيات "طالبان" وأعمالهم القتالية، تتزايد الضغوط على حكومة كابول وحركة طالبان للدخول في عملية مصالحة. فالهند ومن ورائها روسيا ومعهما الولايات المتحدة تضغط في هذا الاتجاه، كل من أجل مصالحه الخاصة بطبيعة الحال. وتفصيلا للجزئية الأخيرة، تدعم نيودلهي عملية المصالحة قطعا لتدخلات إسلام آباد، التي ترى أن أفغانستان حديقة خلفية ذات أهمية استراتيجية قصوى لأمنها لا يمكن التفريط فيها لأي سبب. كما أن الهنود يدعمون المصالحة، رغم كراهيتهم للطالبانيين والشكوك في نواياهم؛ لأنهم - -أي الهنود - حسب قولهم - يريدون أفغانستان ديمقراطية آمنة وحاضنة لجميع الأعراق كي لا تذهب استثماراتهم المليارية فيها سدى. أما الروس فيسعون من خلال الدعوة إلى المصالحة الأفغانية إلى تحييد الخطر الذي يمثله دواعش أفغانستان، أو بعبارة أخرى استخدام حركة طالبان ضد تنظيم داعش، وهو ما ترفضه نيودلهي؛ لأن من شأن ذلك أن تحظى حركة طالبان بدعم عسكري من قبل الروس لمواجهة "داعش"، فيؤدي هذا الدعم إلى تقوية شوكة الطالبانيين، ويجعلهم يناورون ولا يستجيبون لدعوات السلام والمصالحة. هذا علما بأن الهند لا تعترف بحركة طالبان كجماعة سياسية أفغانية شرعية، وإن دعت إلى إشراكها في عملية المصالحة من دون شروط مسبقة، استجابة لدعوة حكومة كابول. ويبدو هذا جليا من موافقة نيودلهي على حضور مؤتمر برعاية موسكو، تشارك فيه "طالبان" وكابول، ثم تراجعها عن ذلك بعد انسحاب كابول، واضطرار الروس إلى تأجيل المؤتمر، بعد أن كان مقررا انعقاده في الرابع من سبتمبر الماضي. الغريب هنا أن واشنطن، رغم خلافاتها مع موسكو ومعرفتها بنوايا الأخيرة، تتخذ موقفا مشابها لموقف الروس، وهو حث "طالبان" وكابول على الدخول في عملية المصالحة، بل راحت إدارة الرئيس دونالد ترمب تضغط أيضا على إسلام آباد، رغم تدهور علاقاتهما البينية، ورغم علمها بأن باكستان كانت وما زالت جزءا من المشكلة وليس الحل، كي تقوم بدور بناء في المصالحة الأفغانية، بمعنى تخليها عن دعم بقايا "طالبان" الموجودين داخل حدودها الشمالية، ممن يشنون هجمات مسلحة ضد حكومة كابول، وذلك طبقا لما تسرب من المحادثات التي جرت في واشنطن أخيرا بين مايك بومبيو وزير الخارجية الأمريكي وشاه محمود قرشي نظيره الباكستاني. من ناحية أخرى، نجد التناقض واضحا في موقفي الصين والهند من المشكلة الأفغانية؛ فالهند ترتاب في غريمتها الصينية المساندة دوما للتوجهات والسياسات الباكستانية حيال أفغانستان، ولا تنسى أن بكين راحت في يوم من الأيام تغازل حركة طالبان حينما كانت الأخيرة في السلطة، طمعا فقط في تأمين حدودها المشتركة مع أفغانستان من هجمات إسلاميي تركستان الشرقية المتمردين؛ حيث من المعروف أن باكستان أسهمت وقتها في ترتيب اجتماع نادر للسفير الصيني المعتمد لديها مع الملا عمر، الذي لم يلتقِ قط مسؤولا أجنبيا بدعوى أنه لا يجتمع مع الكفار، لكن على الرغم من هذا التناقض الهندي - الصيني نجد أن كلتا الدولتين متفقتان، ليس فقط على إيجاد تسوية سلمية للمعضلة الأفغانية، إنما أيضا المساهمة بضخ الأموال والاستثمارات فيها، وتدريب الكوادر العسكرية والمدنية الأفغانية. نأتي الآن إلى لاعب آخر في الشأن الأفغاني وهو إيران، التي لا تخفي طموحاتها في هذا البلد المجاور لها، والتي تضم نسبة معتبرة من المحسوبين عليها مذهبيا. ودليلنا هو أنها أسهمت بطريقة غير مباشرة في الإطاحة بنظام حركة طالبان سنة 2001، ثم احتضنت الهاربين من رجالاتها لاستخدامهم وقت الحاجة ضد واشنطن وحكومة كابول والغرب عموما. فالنظام الإيراني الخبيث، وبمساعدة من حليفتها الروسية في سورية، تريد لنفسها حضورا في أي مؤتمر حول المصالحة الأفغانية. وبالفعل، وجهت موسكو إلى طهران دعوة لحضور المؤتمر الذي تأجل. وقد حاول الإيرانيون أن يوحوا لكل الأطراف بأن وجودهم مفيد، وسيسهم في تعزيز التجارة مع أفغانستان من خلال ميناء "تشابهار"، وهو ميناء على الخليج العربي تسهم في بنائه الهند منذ 15 عاما، وستديره بموجب اتفاق ثنائي مع طهران، ردا على مساهمة الصينيين في بناء ميناء جوادر الباكستاني على بحر العرب، لكن الإيرانيين نسوا أن العقوبات الأمريكية ضدهم لن تسمح لهم لا بالتجارة مع أفغانستان ولا مع غيرها، ناهيك عن أن أمر استمرار الهنود في مشروع تشابهار غير مؤكد في ضوء تلويح واشنطن بعقوبات ضد أي بلد يتعاون مع النظام الإيراني. وبعبارة أخرى، فإن ما كان مخططا له، وهو توريد البضائع الهندية إلى أفغانستان، وتوريد البضائع الأفغانية إلى إيران عبر هذا الميناء دون المرور بالأراضي والموانئ الباكستانية بات أمرا مشكوكا فيه.
مشاركة :