يضع د. باقر النجار قارئه أمام خيارات صعبة، بل ربما معقدة، حين يقرر ذلك القارئ تسطير مراجعة لكتابه الأخير «الحداثة الممتنعة في الخليج العربي». إذ يمكن أن يتم تناول الكتاب من مدخل أكاديمي بحت، بكل ما يحمل منهج المعالجة من أصفاد علمية، ومقاييس جامعية تقيد بها المؤلف على امتداد صفحات الكتاب التي تجاوزت الأربع مائة من القطع الكبير. لكن المادة التي تضمنها الكتاب تشد القارئ نحو القراءة السياسية/الاجتماعية، لما زخرت به صفحات الكتاب من مقدمات واستنتاجات تثير غريزة التساؤلات عند القارئ، وتفتح شهيته الثقافية أمام مائدة زخرت بالكثير من القضايا التي ما تزال تحلق في سماء الفكر العرب مغرية من يقترب منها، بقراءة موضوعية تتناسب وتلك الكتابة الرصانة التي نجدها عند د. النجار. على أن أكثر الفصول إغراء للمعالجة هي تلك المعالجات التي تناولت العلاقات الاجتماعية الخليجية التي ولدتها ثورة الفوائض النفطية، وواقع الثقافة في منطقة الخليج، وما افرزته الساحة الثقافية من مثقفين. ففي المحطة الأولى، وهي محطة العلاقات الاجتماعية، يتوقف د. النجار عند مجموعة من الظواهر نتناولها على النحو الآتي: واقع الدولة في الخليج، وعلاقتها بالمجتمع، ويستهل ذلك بمقدمة نظرية معمقة «تشرح» مفهوم الدولة والأدوار التي تمارسها، سواء ذاتيًا على صعيد تنظيم نفسها ذاتيا من الداخل أو موضوعيا في نطاق تنسيق علاقتها مع المجتمع الذي تديره. وفي هذا الإطار يحذر د. النجار قارئه من النظر إلى الدولة «كأنها كيان موحد، وذلك كنتيجة لما قد يبدو عليه فعلها من مركزية، فإنها في واقع أمرها حالة أو ظاهرة متعددة الجوانب، تختلف طبيعتها باختلاف سياقاتها الزمنية والمكانية، ولربما اختلافات سياقاتها الاجتماعية والثقافية. وأية محاولة لمعرفة الدولة، لا بد أن تضع في اعتبارها إطارها المكاني وبعدها الزماني... وتنظم علاقات الأفراد في الدولة الحديثة عبر نظام معقد من الحقوق والواجبات ولا شخصانية المنافع والمكافآت...». ثم يمضي مستطردا «وعند تحليل الدولة لا بد من الأخذ في الاعتبار الأمور التالية: أولا بناء السلطة والمفاهيم التي تتأسس وفقها أو تفهم أو تمارس العدالة ي المجتمع، ثانيا طبيعة وبناء القوة السائدة وتجلياته في العمليات التنافسية في الصراع السياسي... ثالثا العناصر التي وفقها يتأسس البناء الهير اركي الطبقي والاجتماعي في المجتمع، رابعا المحددات التي تتم وفقها عضوية الأفراد في التجمعات والجماعات القائمة». ص 37 و38. يرسم د. النجار هنا العوامل التي تتحكم في بناء هياكل الدولة، ومن ثم تفرض نفسها عليها عند البدء في تسيير أمورها. ثم ينطلق د. النجار من هذا الإطار النظري نحو معالجة واقع الدولة الخليجية التي يعتقد أنها باتت اليوم مهددة من قبل «تضامنياتها» التي رسخت قوائمها على مدى قرون من التطور الاجتماعي الانسيابي الذي وفر لها الاستقرار الذي يبحث عنه حكامها، والذي أصبح اليوم، بفعل عوامل كثيرة البعض منها ذاتي داخلي اختارته هي، والبعض الآخر خارجي من قبل أطراف دولية وإقليمية اضطرت للقبول بقوانينه. ويرسم د. النجار بعناية فائقة (ص 55 و56) أبرز «خصائص الدولة الخليجية»، لافتا إلى نقطة في غاية الأهمية تتعلق بواقع الدولة الخليجية، وهي أنه «بخلاف الرأي الشائع، كانت (الدولة في الخليج) تتمتع بقدر من الاستقلالية (AUTONOMOUS) في إدارة شؤونها الداخلية بعيدا بعض الشيء عن القوى الدولية المرتبطة بحمايتها أو بعض القوى المتحالفة معها أو المؤثرة فيها». هذا فيما يتعلق بالدولة في الخليج، أما فيما يتعلق بالتكوينات الاجتماعية فيفرد لها د. النجار الباب الثاني من الكتاب، ويعطيه عنوانا مبطنا ما يحاول أن يبينه في فصول الباب الأربعة. يأخذ د. النجار هنا موقفا متوازنا في معالجته لواقع العمالة الوافدة في نطاق ممارستها الاجتماعية، وعلى وجه التحديد في وشائج العلاقات التي نسجتها الظروف المتولدة من مغادرتها موطنها الأصلي وهجرتها الباحثة عن تحسين لمستوى حياتها نحو منطقة الخليج. يسلط د. النجار هنا الضوء على مجموعة من القضايا، من بين الأهم فيها: 1. بخلاف ما روّجت له الكثير من الأقلام التي تناولت واقع وأوضاع اليد العاملة الوافدة في بلدان الخليج، فالصورة الحقيقية ليست كما رسمتها تلك الأقلام التي وضعت تلك التجمعات الوافدة في خانة الاستفادة المطلقة، وسكان المنطقة الأصليين في مربع الضحية المستمرة. إذ يرى د. النجار، وهنا يبرز توازنه في المعالجة، ودقته في الطرح، أن واقع الأمر، ومن ثم النتائج التي ولدها هي أعقد من ذلك كثير. فالتداخلات الاقتصادية، والسياسية، بل حتى الثقافية الناجمة عن قدوم عشرات الملايين من العمالة الوافدة الباحثة عن عمل مع المواطنين الأصليين من سكان الخليج، تؤكد ان الاثنين؛ الوافد والمقيم، ضحية، بغض النطر عن درجة الخسارة التي يتحملها أي منهما، أو مقدار الربح الذي يجنيه. 2. بروز فئات معينة في صفوف الوافدين والمقيمين، باتت لها مصلحة مباشرة في تدفق تلك الملايين من الأيدي العاملة. هاتان الفئتان منخرطتان في تسهيل كل معيقات الرحلة بدءا من بلد العامل الوافد، حتى يحط رحاله في البلد المستقبِل (بكسر الباء). خطورة هاتين الفئتين، خاصة المقيمة منها (يصفها د. النجار قائلا: «لما يسميه أحد وزراء العمل الخليجيين (الهوامير) العاملين في السوق تحت سمع وبصر الجهات الرسمية أحيانا» ص135)، أنها ولدت منافذ فساد ليست في مؤسسات المجتمع فحسب، وإنما أيضا في إدارات الدولة. وبالنسبة إلى تلك القادمة، يقول عنها د. النجار: «مجتمع الجاليات الأجنبية أصبح بفعل الخبرة والوقت يمتلك قنوات تأثير في الأفراد داخل المؤسسات الرسمية المعنية أو خارجها» ص147. 3. محطة في غاية الأهمية يتوقف عندها د. النجار، وهي فئة «العاملين في قطاع خدم المنازل»، وهي الفئة التي يعتقد د. النجار أن عليها يقع العبء الأكبر من سلبيات قدوم اليد العاملة الأجنبية وسلوك رب العمل المقيم تجاهها. والجميل هنا هي تلك التوجهات التي صاغها د. النجار للخروج من تلك الأزمة المستفحلة لصالح طرفي العلاقة ص127.
مشاركة :