«أمام النقاد قرون طويلة ليدركوا قيمة ألف ليلة وليلة الفنية» خ. بورخيس عشاق شهرزاد كثر منهم الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس والشاعر غوته والمفكر الفرنسي فولتير، وإدجار الان بو وجون بارث وغيرهم. يعتبر البرتغالي خورخي لويس بورخيس Jorge Guillermo Borges ( 1899-1986) كاتباً وشاعراً وقاصاً وروائياً ضريراً، ويعد أحد المفتونين بألف ليلة وليلة وسرد شهرزاد، تمتع بورخيس بثقافة واسعة وقراءات عالمية كانت الليالي العربية إحدى هذه القراءات التي قرأها بعدة ترجمات ولغات، عشقها وتأثر بها وطبعت معظم أعماله القصصية والروائية خصوصاً في قصة (الألف El Aleph). ساهمت ألف ليلة وليلة في تبنيه صناعه الكتابة الجديدة في صياغة الجمل والكلمات الإبداعية في معظم مؤلفاته القصصية، وانعكس تأثير الليالي العربية على جماليات نصوصه المابعد حداثية، والتي تأثر بها الكثير من كتاب القصة والرواية العالميين وأبرزهم جون بارث وجارثيا ماركيز وغيرهما، طبق بورخيس تقنية التكرار في الكتابة باعتبارها متاهة والحلم الذي يعتبره مادة أساسية في إبداعه القصصي. ويعتبر المكتبة الهائلة هي الكون. واهتم بالزمن، اللغة، الكون، والتاريخ. إن تأثره بسرد ألف ليلة وليلة انعكس على كتابه (كتاب الرمل) وقاده إلى تمجيد موضوعه اللانهائي، حاكي بورخيس في سرده حكي وسرد شهرزاد في ألف ليلة وليلة كما «برز تقاطع بين شهرزاد وبورخيس بصفتهما يمارسان معاً فعل الكتابة والحكي باللسان الذي يعتبره التعويض الرمزي للقلم. بمعنى أن الكون في منظوره عبارة عن متاهة يضيع فيها الإنسان في مواجهة أسرار الكون. ويرى أن الأدب هو حلم الإنسان الخلاق الذي يعتمد على الخيال والمدهش والعجيب، وقد تأثر برؤية الشرق الأسطورية والخرافية أكثر من تأثرة في رؤية وفلسفة الغرب، لهذا عني بتراث الشرق الثري وتراث أمريكا الجنوبية الأسطوري. كما أن بورخيس «يفجر حالة من الاستبطان أثناء الكتابة ليتقاطع مع شهرزاد عند حدود سلطة الحكي، وتميز أسلوبه القصصي بالجمع بين الواقعي مع السحر والخيال، ويعتبر من أول من استخدم أسلوب النوع في الأدب وانعكس ذلك في أعماله القصصية» (محمد نجم 2015). تأثره بألف ليلة وليلة والتراث الشرقي مثلت شهرزاد لبورخيس في سردها اكتشافاً جوهرياً ومنهلاً لا ينضب، وعزز رؤيته للحياة والكون بتأثير سرد شهرزاد الذي انعكس على أعماله كافة، القصصية أو الشعرية أو كتاباته و محاضراته. يشبه اكتشاف بورخيس لجمال سرد شهرزاد في ألف ليلة وليلة اكتشاف جون بارت الذي تحدثنا عنه، فالسحر والتأثير والتأثر يكاد يكون واحداً. حكى بورخيس أنه أثناء طفولته المبكرة «قاده تسكعه الأدبي في مكتبة أبيه - هذا التسكع الذي يحدوه فضول لا نهاية له- إلى العثور على ترجمة بالإنجليزية، وتحدث بورخيس عن أسماء روايات كثيرة قرأها بالإنجليزية مثل ترجمة بيرتون لكتاب ألف ليلة وليلة، يقول «أعمال بيرتون كانت تعتبر آنئذ هوساً ممنوعاً بالنسبة لي، وكان علي أن أقرأها خفية في السطح، وعندما قرأت دون كيخوته بعد ذلك في طبعته الأصلية بدت لي ترجمته رديئة». (سليمان، 2011( ويكاد بورخيس أن يكون قد قرأ كتاب ألف ليلة وليلة في كل ترجماته باللغات التي يعرفها: «نكاد نتحدث عن كتب عدة عنوانها «ألف ليلة وليلة»: اثنان بالفرنسية، حررهما غالان وماردروس؛ وثلاثة بالإنجليزية بقلم بيرتون ولين وباين؛ وثلاثة بالألمانية بقلم هيننغ وليتمان وفييل؛ وواحدة بالإسبانية لكاسينوس أسينس. وكل واحد من هذه الكتب مختلف عن الكتب الأخرى، إذ إن الألف ليلة وليلة لا تزال متواصلة، أو مازالت تعيد خلق نفسها». ويفضل بورخيس ترجمة غالان حيث يقول: «… النص الأول الذي وضعه غالان بسيط نوعاً ما، وربما يكون الأكثر سحراً من بين كل النصوص، ذلك الذي لا يتطلب أي مجهود من قبل القارئ؛ فمن دون هذا النص الأول، مثلما قال ذلك الكابتن بيرتن بحق، ما كنا لنحصل على النسخ اللاحقة» (سليمان 2011) كان يقضي معظم وقته في القراءة بين الكتب، ويعتبر أن القراءة يجب أن تكون أحد أشكال السعادة الخالصة. روى أنور عبدالعزيز حوار بورخيس مع زوجته الشابة التي تحاول أن تثنيه عن قراءة ألف ليلة وليلة ليحافظ على بقية نظره: «الزوجة الصبية الحلوة تناغي الشيخ الجليل أن يهجر كتابه فلا تلتقط أي صدى لكلماتها.. الساحر الوقور وبكل ثقل جسده ساهٍ عن أي وجود آخر غير ما يضجّ في روحه من متع هذا الكتاب وتلاوينه وأسراره وخفاياه السحرية الأسطورية». تقول له «إن ظللت معانداً ستعمى». يستفزه القول، يرفع رأسه للحظات.. يصلها جوابه غاضباً مستنكراً: . «ألست أنا الأعمى.. أنا البصير والعميان من كارهي الكتب والغرباء عنها وهم كثر ومن وسخ الأرض وممن تلفظ روائحهم الكريهة أوراق النقاء وحروف الذهب وكلمات النور». . تصمت الحلوة الصابرة وهي تعرف أو تتوقع أن غضباً كاسحاً منه سيجرفها إن تمادت في إلحاحها.. لم تعرفه غاضباً لأي سبب إلا عندما يتعلق الأمر بأوراق وأقلام وسهر وكتابة وكتاب، فهذا العاقل الكبير الحكيم يظل موزوناً متماسكاً إلا من جنون القراءة.. هو شيخ مجانين القراءة التي لا تميز بين ليل ونهار ولا شيء يعطله عنها حتى الجوع ولساعات متواصلة متوالدة حتى باتت مقتنعة رغم حالة يأسها بمقولته أن الأعمى ليس أعمى العينين بل الأعمى عن عشق القراءة حتى لو بلغت حد الجنون وتيه الإنسان عما حوله من تفاهات واقعيات الحياة.. وبعد ساعة من هدأة وصمت وقور يصلها صوته أشبه باعتذار وحنين: «حلوتي الطيبة لو عرفت ماذا أقرأ.. لو عرفت من معي.. لو عرفت أي جنون خيالي مثير أقرأ.. أسمعت بها؟ هي معلمة القرون في غرائبياتها السحرية وبلا عقلانية عن أية واقعية راكدة.. أسمعت بها؟ هي شهرزاد حكايا اللامعقول وسيدة صنعة الغرائبيات قبل أن يهلل العالم لغرائبيات سحر اللاتين وإبداعاتهم، فإن إبداع المذهلة الراوية والروائية العراقية ابنة حضارة الماء والخضرة والجبل والصحراء والسحر والشعر والموسيقى والغناء والترف، كانت قد أهدت للعالم حكايا الألف ليلة وليلة ومع أول موسوعة شهية لحضارة الجنس والحب» (عبدالعزيز،2013). كما تأثر بورخيس بتراث أدبي عربي وإسلامي شرقي غير ألف ليلة وليلة انعكس على مادة كتابه «الكائنات الخيالية الذي ألفه 1957 وتناول فيه نماذج من الصور والوقائع التي تعكس التراث العربي والإسلامي والأوروبي في العصور الوسطى وكذلك الأزمنة الحديثة، وغلب عليه الأسلوب الصوفي، خصوصاً في حديثه عن الطائر الأسطوري المعروف بـ «العنقاء» الذي سبق وتحدث عنه الصوفي فريد الدين العطار في كتابه «منطق الطير». بورخيس يعبر من خلال الليالي العربية إلى رواية ما بعد الحداثة. تسربت جماليات أدب ما بعد الحداثة في السرد القصصي والروائي من ألف ليلة وليلة وحكايات شهرزاد والمتمثلة في ما وراء القص (التخييل) والسرد غير الموثوق، والانعكاس الذاتي، والتناص، والتشظي، والتفكيك، والتهكم والسخرية والسحر، والتشكيك في التمييز بين الثقافة العالية والثقافة الشعبية. وتأثر كتاب عالميون في هذا الأسلوب مثل إدجار ألان بو وجون بارث وماركيز. وبورخيس، موضوع حديثنا في هذه الحلقة. أكد بورخيس في إحدى محاضراته أهمية اسم ألف ليلة وليلة وأحب أن يتوقف عند هذا العنوان، ويعتبره واحداً من أجمل العناوين... فهو يتّسم بنوع آخر من الجمال... ويعتقد أن هذا الجمال آت من واقع أن كلمة «ألف» تكاد ترادف بالنسبة إلينا كلمة «لا نهاية». وأن تقول: «ألف ليلة. معناه أننا نتحدث عن عدد من الليالي لا ينتهي، ليال عدة... بل لا تعد ولا تحصى. وفكرة النهاية فكرة أساسية في هذا الكتاب». فمن خلال الليالي العربية Arabian Nights يعبر بورخيس إلى رواية ما بعد الحداثة، ولا شك أن ثقافته القصصية تأثرت بقراءته لألف ليلة وليلة وغيرها وانعكست على أسلوب أدب ما بعد الحداثة الذي تبناه في سردياته القصصية والروائية فقد اعتمد أدب ما بعد الحداثة تطبيق أسلوب التناص، أي العلاقة بين نص (كرواية مثلًا) ونص آخر مثله أو نص ضمن النسيج المتشابك للتاريخ الأدبي. يُمكن أن يكون التناص في قصة أو رواية ما بعد حداثية بمثابة إشارة إلى عمل قصصي أو روائي آخر أو متواز معه، أو استعراض موسّع لعمل ما، أو مجرد تبنّي لأسلوب عمل سابق. تكثر الأمثلة على التناص في أدب ما بعد الحداثة وخصوصًا الإشارات إلى الحكايات الخيالية، كما استطاع أن يجمع الواقع مع السحر والخيال Realism Magical، ويعتبر من أوائل من استخدم هذا النوع في الأدب. ويعتبر النقاد أن قصة بورخيس القصيرة المسماة «بيير مينارد، مؤلف كيشوت» Pierre Menard, Author of The Quixote 1939 إحدى الأعمال الأدبية في أوائل القرن العشرين التي استخدمت التناص وأثرت في ما بعد الحداثيين اللاحقين، وتتضمن هذه القصة إشارات واضحة إلى «دون كيشوت، التي تُعتبر في حد ذاتها مثالًا جيدًا على التناص بسبب إشارتها إلى القصص الرومانسية في العصور الوسطى». وفي الحلقة القادمة سوف نوضح أسلوب القص ما بعد الحداثي في بعض أعمال بورخيس. ... ... ... ... ... هوامش - أنور عبدالعزيز، ما رأه بورخيس، 2013 جريدة الزمان، رابط https://www.azzaman.com/%D9%85%D8%A7-%D8%B1%D8%A2%D9%87- / - محمد نجم، بورخيس وشهرزاد في الكتابة، 2015، ثقافات، صحيفة الخليج رابط https://thaqafat.com/2015/07/27228 - وليد سليمان، بورخيس وألف ليلة وليلة، 2011، ملحق المدى، رابط - https://almadasu pplements.com/view.php?cat=2451 ** ** - ناصر العديلي Chmq2012@gmail.com
مشاركة :