تحت عنوان «إعادة ترتيب الشرق الأوسط»، شهدت العاصمة البحرينية انعقاد منتدى حوار المنامة الذي يعقد بها منذ عام 2004 والذي يمثل المنصة الإقليمية والدولية الوحيدة لتبادل الآراء ووجهات النظر، حول القضايا والموضوعات الاستراتيجية والأمنية لمنطقة الشرق الوسط، فيما يعد إنجازا متميزًا للخارجية البحرينية بالتعاون مع المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية البريطاني، ليس فقط بسبب نجاحها في استضافة هذا المنتدى السنوي الذي تشارك فيه قيادات سياسية وأمنية ودبلوماسية وأكاديمية وإعلامية إقليمية ودولية على مستوى عالٍ، ولكن أيضًا بسبب الموضوعات المطروحة للنقاش، حيث بات المنتدى فرصة متفردة لدبلوماسية الدفاع، ومجالاً ممهدًا للوصول إلى تفاهمات ورؤى مشتركة لتسوية المنازعات الإقليمية والدولية، ومنبرًا للتشاور الثنائي ومتعدد الأطراف بين الوزراء ورؤساء أركان الدفاع وقادة الأمن القومي والدبلوماسية حول مختلف التحديات الأمنية والسياسية. وعلى مدار أربعة عشر عاما، دأبت الدورات السابقة للمنتدى على مناقشة موضوعات ذات اهتمام إقليمي ودولي مشترك، حظيت بأهمية خاصة؛ منها ما يتعلق بالنزاعات الإقليمية، والتحولات في ميزان القوى العسكرية في المنطقة، ومخاطر الطائفية في السياسة، والأمن المرتبط بالطاقة، والتعاون الإقليمي والدولي في الأمن المعلوماتي، والحرب الإلكترونية، وإدارة الإسلام السياسي، وغسل الأموال، وحقوق الملكية الفكرية، وغيرها من الموضوعات التي تشكل هاجسا بالنسبة إلى دول الخليج العربي وللمجتمع الدولي، ومن ثمّ، إيجاد تفاهمات بشأنها والتوصل إلى رؤى مشتركة إزاء وجود حلول لها. ومع ذلك، فإن أعمال قمة المنتدى، التي عقدت في الفترة من 26-28 أكتوبر2018؛ تكتسب أهميتها من عديد من الاعتبارات. فبالإضافة إلى أنها النسخة الرابعة عشرة من المنتدى، الذي يواصل سنويا وبنجاح مسيرة إسهاماته في مواجهة مصادر التهديد الإقليمي والدولي، فإن القمة هذا العام جاءت في وقت يحفل فيه الإقليم بقضايا ومشكلات لا تهم دول المنطقة فحسب، بل المجتمع الدولي ككل، والذي ترتبط مصالحه الحيوية بمدى أمن واستقرار دول المنطقة، وهو ما انعكس على الموضوعات التي تم تناولها، ومنها؛ القضايا التي تتعلق بالسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، والعلاقات المتحولة والنظام الشرق أوسطي الناشئ، والصراع والدبلوماسية في الشرق الأوسط، بالإضافة إلى مواضيع حول تثبيت الاستقرار وإعادة الإعمار في المنطقة، والأمن والتنافس في منطقة القرن الإفريقي، بالإضافة إلى الموضوعات التي نوقشت على هامش المنتدى والتي تتعلق بالتحديث والتصنيع الدفاعي في الشرق الأوسط، وأمن باب المندب، والتهديدات السيبرانية، والطاقة النووية وعدم انتشار الأسلحة النووية في الشرق الأوسط. وطبيعي أمام هذه الموضوعات والقضايا الحساسة، أن تقابلها مشاركة مسؤولي أكثر من 25 دولة ما بين وزراء خارجية ودفاع ورؤساء أركان، ومستشاري أمن قومي، وصانعي سياسات، من بينهم؛ وزير الدولة للشؤون الخارجية الأردني، أيمن الصفدي، الذي ألقى كلمة الملك عبدالله الثاني، ووزير الدفاع الأمريكي، جيمس ماتيس، ووزيرة الدفاع الألمانية، أورسولا فون دير لاين، وأحمد أبو الغيط، الأمين العام لجامعة الدول العربية، ووزير الخارجية السعودي، عادل الجبير، ووزير الدولة للشؤون الخارجية العماني يوسف بن علوي، فضلاً عن المهتمين والمعنيين من الخبراء والباحثين والأمنيين والمتخصصين والأكاديميين، والمحللين. ولئن كان منتدى هذا العام، والذي قُدم موعد انعقاده مقارنة بالأعوام السابقة، ليواكب المستجدات والظروف الإقليمية والدولية الراهنة، قد ناقش هذه المجموعة الواسعة من القضايا الأمنية، الإقليمية والدولية، فإنه يمكن اعتبار أربعة موضوعات أساسية قد طغت على مناقشاته وسيطرت على أجوائه، منها؛ أولا: ما يتعلق بتشكيل «الناتو العربي»، أو ما يعرف رسميًا بـ«التحالف الاستراتيجي للشرق الأوسط»،(MESA)، حيث دعت «كوري شاكي»، نائب مدير عام المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية إلى تطوير الشراكات الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط، معللة ذلك بأن «منطقة الشرق الأوسط هي منطقة حساسة تختلف تماما عن بقية مناطق العالم»، فيما أكد المدير التنفيذي للمعهد، «توماس بيكيت»، أن «الإرهاب من بين التحديات التي تواجه هذه المنطقة، ما يحتم إقامة التحالفات لمواجهته». وخلال جلسات المنتدى، أكد الشيخ خالد بن أحمد آل خليفة وزير الخارجية البحريني «أهمية التحالفات والشراكات بين الدول الداعمة للاستقرار في المنطقة وحلفائها في الخارج، لضمان الاستقرار الإقليمي»، مؤكدا أن «إنشاء تحالف الشرق الأوسط الاستراتيجي سيسهم في تعزيز الأمن والازدهار في المنطقة، ويساعد دولها في مواجهة التحديات المختلفة التي تواجهها»، مضيفا أن هذا التحالف «سيكون مفتوحا أمام من يقبلون مبادئه، كما أنه ليس مصممًا كشراكة دفاعية بحتة؛ بل يعتبر شراكة اقتصادية تسعى إلى تعزيز التجارة والاستثمار الأجنبي المباشر بين أعضائها». وفي هذا الصدد، أكد وزير الخارجية السعودي، «عادل الجبير»، دعم السعودية للتحالف، بقوله: «نؤيد بقوة تحالف الشرق الأوسط الاستراتيجي»، مشيرًا إلى استمرار النقاشات مع الأردن ومصر لبلورة الأفكار، والتوصل إلى الهدف الأساسي، وهو «ضمان الأمن للمنطقة». على الجانب الآخر، قالت نائب المدير العام لمعهد الدراسات الدولية، «كوري شاك»، إن «تناقضات إدارة الرئيس الأمريكي ترامب، تجعل من الصعب الحصول على التزام دائم بالتحالفات الأمريكية مع الخليج العربي وتمرير تلك التحالفات في الكونجرس». فيما كان ثاني أهم عنصر نوقش في المؤتمر، هو مواجهة المخططات الإيرانية في المنطقة، وقد ركز كل من وزير الدفاع الأمريكي «جيمس ماتيس» ووزير الخارجية السعودي «عادل الجبير» كثيرًا من مناقشاتهما حول هذه القضية، حيث انتقد كل منهما إيران. وأشار الجبير إلى أن المنطقة «تشهد صراعا بين رؤيتين.. رؤية سعودية مستنيرة، وأخرى إيرانية ظلامية»، مؤكدا أن إيران أكبر راعٍ للإرهاب بالمنطقة، وأن الصراعات في الشرق الأوسط جاءت بسبب قوى إقليمية تعمل على تغيير المعادلات والهيمنة على المنطقة». وذكر أن «المشكلة هي كيفية التعامل مع إيران وإبعادها من التدخل في شؤون الدول والعبث بالمنطقة». وفي الأثناء، أعاد وزيرُ الدفاع الأمريكي، «جيمس ماتيس»، التأكيد على أن النظام في إيران «خارج على القانون»، مشيرًا إلى أنها تواصل تهديد الملاحة الدولية، ومستمرة بتزويد مليشيات الحوثي في اليمن بالأسلحة والمعدات، مؤكدا أن أمريكا لن تقف مكتوفة الأيدي أمام تطويرِ إيران لبرنامجها النووي. كما أكد أن «روسيا لا يمكن أن تحل محل الولايات المتحدة في الشرق الأوسط»، مؤكدا أن «الشراكة مع دول الخليج أساسية ومستمرة». ومن جهته، أكد «توماس بيكيت»، المدير التنفيذي لمعهد الدراسات الدولية، أن «أكبر التهديدات في الشرق الأوسط تتمثل في الإرهاب والتطرف وإيران». ومن جانبه، أكد أحمد أبو الغيط، الأمين العام لجامعة الدول العربية أن «ما تعرضت له المنطقة العربية على مدى ثماني سنوات، عقب أحداث 2011. أضاع التوازن في الإقليم، وأدى إلى تدخل غير مسبوق من دول الجوار». ومن بين القضايا الأخرى التي نوقشت خلال جلسات المنتدى، ما يتعلق بتطورات «صفقة القرن»، حيث أعرب الوزير العُماني المسؤول عن الشؤون الخارجية، «يوسف بن علوي»، دعمه لمشروع صفقة القرن، مؤكدا أنه سيأخذ في الاعتبار كل الأطراف، مضيفا: «نحن حريصون على عدم فشله، ونأمل أن نصل إلى نتيجة مثمرة وإن طال الانتظار». فيما أعلن أن مسقط تبذل «جهودًا متواضعة» للمساعدة في التوسط لإنهاء الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. قائلا: «نحن لسنا وسطاء في هذه القضية، لكننا نقدم نوعا من التسهيلات والرؤى التي يمكن أن تضيف شيئًا جديدًا في هذا الصدد»، موضحًا أن واشنطن وحدها المعنية بالتوصل إلى اتفاق يرضي الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي. وقال «ما لم نستطع التوصل إلى حل نهائي للقضية الفلسطينية لن نتمكن من تحقيق الاستقرار، وندعو الجميع إلى العمل معنا أن يفكروا بالمستقبل وليس الماضي». وهنا لا بد أن نشير إلى خطاب الرئيس محمود عباس الأخير في المؤتمر الذي عقدته منظمة التحرير الفلسطينية الذي رفض بشدة هذه الصفقة واعتبرها مشبوهة. وكان كل من رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، ورئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس قد قاما بزيارة إلى مسقط في الأسبوع السابق لمؤتمر الحوار والتقى بكليهما السلطان العماني قابوس بن سعيد، ما يؤكد مدى أهمية تلك الزيارتين في ضوء ما أعلنه بن علوي خلال المنتدى. من جانبه، قال وزير الخارجية الأردني، أيمن الصفدي إنه «لا يمكن تحقيق السلام في المنطقة من دون حل الصراع العربي الإسرائيلي». ومما لا شك فيه، أن الملف المتعلق بمقتل الصحفي السعودي في «واشنطن بوست»، «جمال خاشقجي»، تم طرحه من قبل الصحفيين والمحللين الأمريكيين والأوروبيين في المنتدى، وخاصة بعد أن ظهرت بشكل بارز في خطاب اثنين من أكثر الأفراد أهمية بين الحضور، وهما وزير الدفاع الأمريكي، «جيمس ماتيس»، الذي عبر عن اهتمام واشنطن بِشأن تداعيات قضية «خاشقجي» على الاستقرار الإقليمي، مؤكدا في الوقت ذاته الحرص على عدم استباق نتائج التحقيقات، ووزير الخارجية السعودي، «عادل الجُبير»، الذي أكد موقف حكومته من هذه القضية، معلقا: «أصبحت قضية خاشقجي أمرًا هستيريًا في وسائل الإعلام قبل استكمال التحقيقات». وفي ظاهرة جديرة بالملاحظة، أن هذه هي المرة الأولى التي تشارك فيها دول إفريقية في أعمال المنتدى، حيث تناولت إحدى جلساته الأمن والتنافس في القرن الإفريقي، ما جعل «فيرجينيا كومولي» من المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، تؤكد أن «حوار المنامة» في نسخته الأخيرة، «قدم فرصا كبيرة لاكتشاف آفاق جديدة في القارة الإفريقية». على العموم، إن تنظيم البحرين سنويا لمؤتمر «حوار المنامة»، على مدار 14 عاما، سواء اتفقت أو اختلفت مع حواراته وما تتوصل إليه نقاشاته، يؤكد المكانة المتميزة التي تتمتع بها دبلوماسيتها إقليميا ودوليا، بما يعزز من مكانتها على الخريطة العالمية، بالإضافة إلى أنه ينعش ويثري الحركة الاقتصادية، ويحرك نمو الشركات والمؤسسات التجارية، ولا سيما أنه دليل واضح على ما تتمتع به من أمن وأمان واستقرار، فيما يوفر المنتدى فرصا واعدة للتواصل الحضاري والثقافي، خاصة أنه يعتمد فكرة التواصل المباشر بين المشاركين فيه، والتي تمكن كبار صانعي القرار السياسي في الشرق الأوسط وخارجه من تحقيق مزيد من التفاهمات والمشاورات بشأن التحديات والمخاطر، ومن ثمّ، التوصل إلى رؤى مشتركة إزاء القضايا التي تشكل هاجسا بالنسبة إلى دول الخليج العربي وللمجتمع الدولي.
مشاركة :