يؤكد فوز مرشح أقصى اليمين جائير بولسونارو في الانتخابات الرئاسية في البرازيل أن صعود اليمين المتطرف بات ظاهرة عالمية، وأن اعتقاد البعض بان هذه الظاهرة قد بدأت بالانحسار خاطئ تماماً. بدأت ملامح “ربيع اليمين” عام 2014، إذ شهدت الانتخابات البرلمانية الأوروبية في ذلك العام صعود أحزاب اليمين المتطرف، وخصوصا في فرنسا والدنمارك وألمانيا وفنلندا واليونان. لم يتم إيلاء هذا التطور الأهمية اللازمة، واعتبر خاصاً بتلك الانتخابات على وجه التحديد. بلغت أزمة اللاجئين في أوروبا ذروتها في عامي 2015 و2016 ومعها تتالت الصدمات، إذ صوّت الناخبون البريطانيون في صيف العام 2016 على خروج بلادهم من الاتحاد الأوروبي. ولم ينته ذلك العام إلا بانتخاب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة الذي أعلن الحرب على الإعلام وعلى استقلال القضاء متسلحاً بخطاب قومي عنصري مركزه التفوّق الأميركي والعداء للأجانب. أعلن انتخاب ترامب انتقال ظاهرة صعود اليمين المتطرف من أوروبا إلى أميركا الشمالية. في العامين الماضيين، تواصل صعود اليمين المتطرف وأكدت ذلك نتائج الانتخابات التي جرت في عدة بلدان أوروبية وخصوصا في دول أوروبا الشرقية. لكن الديمقراطية الراسخة ومستويات التعليم والمعيشة في أوروبا الغربية لم تمنع المد اليميني من الوصول إلى دول أوروبا الغربية مثل هولندا والسويد وألمانيا والنرويج والدنمارك والنمسا حيث وصل للحكم في الأخيرة، بينما حقق قفزة كبيرة في عدد المقاعد البرلمانية في البلدان الأخرى دون أن يصل للحكم. في جميع تلك البلدان شكّل فوز أحزاب اليمين تحديا للديمقراطية الليبرالية وخصوصا الجانب المتعلق بحقوق الإنسان، إذ توعدت بإدخال تعديلات كبيرة تهدد الوجه الليبرالي للقارة العجوز. ما شكل صدمة للتيار الليبرالي هو حصول تلك الأحزاب المعادية للديمقراطية الليبرالية على أصوات متزايدة من الناخبين. إذ طالما سادت قناعة بقوة الديمقراطيات الغربية وبالليبرالية كقيمة عليا لدى الغالبية الساحقة من سكان أوروبا وأميركا الشمالية، إلى درجة ادعاء بعض المثقفين بأنها “خصوصية” غربية أو مسيحية. هكذا فإن نتائج الانتخابات الأخيرة ليست أمراً معزولا. إنها جزء من مركب عالمي تتغذى عناصره المكوّنة على بعضها البعض. هكذا كان من المتوقّع مشاهدة الأعلام الأميركية وصور ترامب في الحملات الانتخابية للرئيس البرازيلي المنتخب. كان يمكن أن يفوز بولسونارو بالانتخابات من دون وصول ترامب للحكم ولكن ذلك سيكون أكثر صعوبة. كما كان من الممكن أن يفوز ترامب بالرئاسة من دون نتائج البريكست في بريطانيا ولكن بحظوظ أقل. لا يعني ذلك أن أسباب صعود اليمين في كل دولة هي أسباب خارجية بحتة. إنها داخلية بكل تأكيد، ولكنها اكتسبت قوة إضافية وزخما غير مسبوق كونها جزءا من موجة واسعة واعدة بالتغيير. يبقى المشهد السياسي والاقتصادي الداخلي رئيسياً في تفسير صعود اليمين في كل دولة وآخرها البرازيل. إذ تتجاوز أزمة الديمقراطية في أميركا اللاتينية ظاهرة صعود اليمين، وتشمل دولا عديدة في القارة يحكمها اليسار منذ العقد الماضي. انهارت الديمقراطية في فنزويلا ونيكاراغوا، فيما تعاني في بوليفيا وهندوراس. في معظم دول القارة، ويشمل ذلك أكثرها غنى واستقرارا كالبرازيل وتشيلي، تحكم العصابات سيطرتها على أحياء الفقر وأحياء السكن العشوائي وتؤسس دولة صغيرة داخل الدولة وتنتشر الجريمة في مختلف المدن اللاتينية. كما تواصل معدلات البطالة والتضخم والتفاوت الاقتصادي والفساد ارتفاعها بصورة كبيرة. حصل ذلك في ظل أنظمة ديمقراطية وهو ما أضعف الثقة بالديمقراطية كنظام سياسي، مقابل ارتفاع الثقة بالجيش حسب استطلاعات الرأي. بالنسبة للطبقات الشعبية مثلت الديمقراطية أداة للتغيير السياسي والاقتصادي. هكذا حملت أصواتها أحزاب اليسار للسلطة في معظم دول أميركا اللاتينية انطلاقا من مطلع الألفية الجديدة وكذلك فعلت في البرازيل. لكن اليسار البرازيلي لم يعد معنيا بالتغيير كما كان في العقد الماضي. انتهى حزب العمال البرازيلي إلى حزب فاسد يقود دولة بيروقراطية كبيرة تشكل مسرحا للفساد والتربح مقابل تنامي الأزمات التي تعصف بالبرازيليين. دفع ذلك بشرائح متزايدة من جميع الفئات، خصوصاً من الفئات الوسطى المهتمة بالاستقرار والأمن، لدعم اليمين المتطرف لتجنب الوصول إلى ما يشبه الوضع في فنزويلا، أي إلى الفوضى.
مشاركة :