السفر.. من طلب الرزق إلى الترفيه عن النفس

  • 11/3/2018
  • 00:00
  • 49
  • 0
  • 0
news-picture

كان العزم على السفر أو مجرد التفكير فيه يجعل المرء في حيرة من أمره، فكيف سيستعد لهذا السفر الذي وصف منذ القدم بأنه قطعة من العذاب، بل تعدى الأمر من البعض أن نسب العذاب إلى السفر، فقلب المثل من القول: «السفر قطعة من عذاب» إلى القول «العذاب قطعة من السفر»، وذلك لما يعانيه المسافر من مشقة وأخطار، إضافةً إلى البُعد عن الأهل والأحباب، ولا سيما إذا كان هذا السفر غير محدد بعودة قريبة، ويخضع إلى تحقيق إنجاز معين، كالسفر طلباً للمعيشة، أو أداء مناسك الحج والعمرة قبل استيراد السيارات وشق الطرق وتعبيدها، وعلى الرغم من أن جيل الأمس القريب قد زالت عنه بعض مشقة السفر، بعد أن شاع استخدام السيارات بكثرة بعد توافرها وانتشارها، إلاّ أن السفر لم يكن في حقيقته متعة؛ إذ كان السبب الرئيس لكل سفر هو قضاء حاجة، ومن ثم العودة إلى البلاد، أما في عصرنا الحاضر، فقد تبدلت الأحوال، وأصبح السفر متعة حقيقية؛ إذ توافرت كل سبل الراحة، خاصةً بعد تطور وسائل السفر، وتعددت الخيارات من طرق سريعة وسيارات مكيفة ومريحة وقطارات سريعة وطائرات، حتى السفن التي تمخر عباب البحر، أصبحت كأنها مدن عائمة، فيها جميع الخدمات من مطاعم وفنادق وأسواق، وبات من يستخدم وسائل السفر في أيامنا هذه ينعم بالراحة والرفاهية. حاجة ماسة على الرغم من الفوائد الكثيرة التي يجنيها المسافر كما يقول الإمام الشافعي في فوائد السفر: تغرب عن الأوطان في طلب العلى وسافر ففي الأسفار خمس فوائد تفريج هم واكتساب معيشة وعلم وآداب وصحبة ماجد، ويقول أيضاً: سافر تجد عوضاً عمن تفارقه وانصب فإن لذيذ العيش في النصب إني رأيت وقوف الماء يفسده إن ساح طاب وإن لم يسح لم يطـب والشمس لو وقفت في الفلك دائمة لملها الناس من عجم ومن عرب إلاّ أن السفر فيما مضى يعني التغرب عن الأهل والأحبة والأصدقاء، ولا يعزم على السفر إلاّ من كان في حاجة ماسة إليه، وأكثر ما كان يضطر الناس إلى السفر هو تأمين لقمة العيش، فيتغرب المرء عن بلدته، وربما عن وطنه من أجل ذلك، وقد ضربوا في ذلك أمثلة تتردد في ذلك الوقت، مثل: «الهند هندك لا قل ما عندك»، و»الشام شامك إذا الدهر ضامك»، فضربوا أصقاع الأرض يمنة ويسرة، وامتهنوا الغوص والزراعة والتجارة وغيرها من الحرف التي أكسبتهم المال والعودة إلى أرض الوطن شامخي الرأس، فرحين بما رزقهم الله من مال حلال، مكنهم من العودة مغتنين عن السفر مرة أخرى بما حققوه من مكاسب طيبة، وكم كانت ساعات الغربة تطول على المغترب، خاصةً على أهله وأحبابه، وكثير منهم لا يستطيع التواصل مع أهله وذويه لانعدام وسائل التواصل فيما مضى، حيث إن كثيرا ممن تطول غيبتهم يدب إلى نفوس منتظريهم اليأس برجوعهم، وعند عودتهم بعد عدد من السنين يكون كأنه عندهم مولود، ما جعل البعض يصرف فكرة التغرب من رأسه مقتنعاً بعيشه كفافاً أو تحت خط الفقر. عاد بسرعة أحدهم كان وحيد أبويه، وعمره لم يتجاوز الثانية عشرة من عمره، وأمام إلحاح والدته بأن يتغرب إلى الرياض، التي تبعد عن بلدته أكثر من 150 كيلو مترا قبل 80 عاماً ليحصل على عمل يقتات به، ويرسل إليهم مما يكسب نظراً لفقرهم الشديد، رضخ بعد تردد، واستقل إحدى السيارات التي تمر ببلدته، وهو يحمل متاعه الذي تزود به للرحلة في «بقشة»، وهي قطعة قماش مربعة الشكل كـ»الشماغ» ملفوفة، فركب في ظهر سيارة «اللوري» مع بزوغ الفجر بعد أن ودّع والديه بالدموع والنحيب، وما إن استقر بضع دقائق من مضي السيارة في طريقها الترابي الوعر إلاّ وشخَص برأسه إلى مقصورة القيادة، مخاطباً السائق ومعاونه: هل وصلنا إلى الرياض؟ فأجابا بالنفي، وهما يضحكان من سذاجته، فالطريق إلى الرياض يستغرق اليوم بكامله إذا لم يعترضهم ظرف، كأن تتعطل السيارة أو تعلق إطاراتها في الرمال الغزيرة، وبعد برهة من الزمن، أعاد السؤال مرة أخرى، وهو يرى معالم بلدته تتلاشى، فأجابا بالنفي أيضاً، وبعد مضي وقت قصير آخر كرر السؤال نفسه، فأجاباه متذمرين بالنفي، فما كان منه إلاّ أن قفز من ظهر السيارة عندما خففت سرعتها لتجاوز أرضاً رملية، وأطلق ساقيه للريح عائداً إلى بلدته، متوجهاً إلى منزل والديه، اللذين تفاجآ برجوعه، فسألاه عن سبب عودته بسرعة، فقال: «الرياض بعيدة جداً ولم أطق الفراق»، وبقي في بلدته يعمل ولم يغادرها سوى لأداء الحج بعد أن كبر إلى أن مات. حج وعمرة ومن أهم أسباب السفر في بلادنا وما جاورها منذ القدم هو العزم على أداء مناسك الحج والعمرة، ولكون السفر شاقاً ومتعباً، فقد كان من يعتزم السفر يؤدي الحج والعمرة معاً، وكم كانت رحلة الحج محفوفة بالمخاطر قبل توحيد المملكة على يد المؤسس الراحل الملك عبدالعزيز –طيب الله ثراه–، فالطريق شاق ومتعب، والمخاطر تحف به، فمن سلم من خطر الموت من جراء المرض أو فتك السباع، فإنه قد لا يسلم من اعتداء قطّاع الطرق، لذا فقد كان الذاهب إلى الحج في ذلك الزمان كالمفقود والعائد كالمولود، ولكن بعد توحيد هذه البلاد، بات الحج أكثر أماناً وسلاماً، ولكن السفر كان متعباً في بداية التأسيس، فبعد أن كان على الأقدام وعلى الرواحل التي تقطع الطريق في حدود الشهر، والعودة كذلك، تمت الاستعانة بالسيارات بعد ورودها، وتنامي عددها، وصار الطريق إلى الحج أياماً معدودة، إلاّ أن الحاج يصل منهكاً جراء تعرضه للغبار وكثير من المطبات التي تنهك جسده، ومع مرور الزمن، وتقدم صناعة السيارات التي باتت أكثر سرعة وراحة، وتزويدها بالمكيفات وسفلتة الطرق، أصبح السفر أكثر أماناً وراحة، خاصةً بعد توافر المطارات الداخلية التي تنقل الحجاج في طائراتها في اليوم نفسه إلى مكة المكرمة لأداء مناسك الحج والعمرة. رحلة السفر وكان السفر لدى جيل الأمس لا يحصل إلاّ في أضيق الحدود، وللحاجة الماسة، مثل مراجعة دائرة حكومية بعيدة عن القرية، أو زيارة مريض، أو مراجعة أحد المستشفيات المتخصصة في علاج عدد من الأمراض، التي لم يستطع مستوصف القرية تشخيصها أو تقديم علاج مناسب لها، وغيرها من الأسباب الضرورية، التي تستوجب السفر وشد الرحال، ولم يكن السفر يقرر في اللحظة ذاتها، بل يحتاج إلى استعداد مسبق، فأول ما يقوم به من يريد السفر هو تفقد سيارته، من حيث أداء المحرك، ووجود السوائل، وعدم نقصانها، وسلامة الإطارات، والتأكد من وجود الهواء الكافي بها، ووضع «العزبة»، وهي أدوات الطبخ والطعام في السيارة، ومن ثم يكون المشي مع بزوغ الفجر بعد أداء الصلاة جماعة في المسجد، ويكون الفطور قد أعد مسبقاً؛ ليتم تناوله عند التوقف للراحة، قبل أن تزداد حرارة الشمس، وبعد الإفطار تتم متابعة السير بسرعة متوسطة؛ حيث كانت الطرق المعبدة غير مزدوجة في البدايات، وعند اشتداد حرارة الشمس، يتم التوقف تحت ظل شجرة لأداء صلاة الظهر وللتبريد على محرك السيارة، حيث يتم فتح «الكبوت» من أجل ذلك، وبعد أداء الصلاة يتم إعداد طعام الغداء، وإذا كان الجو لطيفاً، فإن الغالبية يأخذون قسطاً من النوم للقيلولة، ومن بعد ذلك يتابعون المسير حتى الوصول إلى وجهتهم، فيحلون ضيوفاً على أحد أقاربهم أو معارفهم لعدة أيام حتى ينهوا ما أتوا من أجله من أعمال، فلم تكن هناك فنادق أو شقق تؤجر باليوم في ذلك الوقت، كما أن المطاعم شحيحة ومحال الوجبات السريعة معدومة، وكذلك بالنسبة إلى باقي الخدمات كمغاسل الثياب مثلاً، ومع ذلك فقد عاش جيل الأمس مع هذا الواقع، وتأقلموا معه، الذي ما فتئ أن تغير إلى الأحسن إلى أن صار إلى ما عليه الحال اليوم. سفر اليوم وتغير مفهوم السفر لدى جيل اليوم، وبات مع التطور الذي نعيشه أكثر متعة من ذي قبل، ولم يعد السفر قطعة من العذاب، بل أصبح من الضرورات التي فرضتها حياة اليوم، فالإنسان أصبح لا يستغني عن السفر، ليس طلباً للرزق أو إنجاز مهمة تتطلب ذلك، بل من أجل الترفيه والترويح عن النفس، وأصبح كل رب أسرة أو شاب يحرص على قضاء إجازته مسافراً إلى إحدى الدول للسياحة، وقد سهلت «التكنولوجيا» التي نعيشها اليوم من أمر السفر، حيث بات السفر أكثر أماناً بواسطة الحجز على الخطوط الجوية بضغطة زر لا تستلزم حضورك إلى مكتب خطوط، حيث تقوم بحجز مقعدك، وقطع تذكرتك، وبطاقة صعودك على الطائرة بواسطة التطبيقات الذكية على أجهزة الهاتف النقال، وكذلك الحال حجز الفنادق والشقق المفروشة والسيارات، ولم يعد من الضروري حمل الأموال الطائلة معك، أو اللجوء إلى صرف وتبديل العملة، فبطاقة الصراف سواء العادية أو «الفيزا» تمكنك من صرف النقود، الذي تريد في أي دولة من العالم، ولعل من أعظم الفوائد والمنافع والإيجابيات التي يمنحها السفر لعشاق التنقل والترحال، هو اكتساب عديد من الثقافات والعادات والقدرات والطاقات، كالاعتماد على النفس، وزيادة منسوب الفضول، وتقدير الأمور، والصبر والحكمة والاقتصاد والتنظيم، وغيرها من المكتسبات الشخصية التي يحصل عليها المسافر، فهناك من يسافر لاكتشاف البلدان والتعرف على آثارها وتاريخها وحضارتها، ويستمتع بما فيها من خيرات الطبيعة والجمال، وأخيراً فقد ودّع الجميع معاناة السفر التي عاشها جيل الأمس القريب بفضل النعمة والتقدم الذي نعيشه ولله الحمد، وصار السفر أكثر متعة وإثارة. قديماً كان البعض لا يلجأ إلى السفر إلاّ في أضيق الحدود وللحاجة الملحة فترة راحة وتبريد على السيارة نهاية رحلة السفر في الماضي تستلزم الإقامة لدى الأقارب أو المعارف الطيران في بداية تأسيسه في المملكة أسهم في تخفيف معاناة السفر اليوم أسهمت التقنية في خدمة المسافرين سفر اليوم من أجل المتعة وتغيير الأجواء

مشاركة :