يظل موضوع التناول الأدبي للحرب والأحداث المشتعلة في الدول العربية موضوعًا سجاليًا، فبينما هناك من يرفض أن يقتصر دور الروايات الحديثة على توثيق وملاحقة الحدث، فإن بعض الكُتاب والنقاد يستنكر أن يكتب أحدهم عن الماضي بينما تُعاني بلاده أتون الحرب. “العرب” حاورت الروائي اليمني حول روايته الجديدة “أرض المؤامرات السعيدة” التي آثر فيها الخوض بعيدًا عن وقائع الحرب في بلاده. بعد توقف دام سنوات منذ آخر رواية له “بلاد بلا سماء” عاد الروائي اليمني وجدي الأهدل بروايته الصادرة حديثا “أرض المؤامرات السعيدة” عن دار هاشيت أنطوان/ نوفل. يشير الأهدل إلى أن الفترة التي تفصل بين رواية “بلاد بلا سماء” التي صدرت طبعتها الأولى عام 2008 وبين رواية “أرض المؤامرات السعيدة” الصادرة في عامنا هذا 2018 هي عشر سنوات. وهذا التوقف الذي دام عقداً من الزمن عن الإصدار هو في جزء منه محاولة لتأمل الفن الروائي والقراءة عنه وقراءة الأعمال الروائية التي أتت بتقنيات فنية جديدة. يقول الأهدل في حديثه مع “العرب”، “بالنسبة لي إصدار رواية جديدة يعني أن أتفوق على نفسي وأقدم رواية أفضل من التي سبقتها. إذا لم أتمكن من فعل هذا التجاوز الفني لعمل سابق فحينئذ ما الداعي لإصدار رواية جديدة؟ لا يهم عدد الروايات التي تحمل اسمي، المهم هو أن تشكل كل رواية جديدة نقلة فنية تؤشر إلى تطوري ككاتب، وأن يشعر القارئ بهذه الإضافة الفنية ويتفاعل معها، وأحسب أن هذا هو الغرض من إصدار أيّ عمل أدبي جديد”. محكمة الأدب تسلط رواية “أرض المؤامرات السعيدة” الضوء على فكرة تكريس الصحافة لخدمة السلطة بالانطلاق من قضية زواج القاصرات في اليمن.. هل كانت ثمة أحداث في الواقع دفعته للكتابة في هذه القضية؟ يجيب الأهدل بأنه قرأ في الصحف عن حادثة اغتصاب شنيعة، شيخ قبيلة اغتصب طفلة عمرها ثماني سنوات. ظلت الصحف تتابع القضية، وظل هو يحتفظ بالقصاصات، وفي نهاية الأمر أفلت الجاني من العقاب! واستفزه حكم المحكمة بالبراءة، فقال في نفسه “لعله لا يفلت من محكمة الأدب!”. أكتب الآن مجموعة قصصية تنتمي إلى أدب الخيال العلمي، ولذا فإن القالب جاهز، ولكنني أبحث عن موضوعات تصلح أن تتحول إلى قصص خيال علمي يستطرد الأهدل: ظلت الفكرة حبيسة الأدراج إلى أن دعيت في أواخر عام 2010 للمشاركة في ورشة الكتابة التي تنظمها الجائزة العالمية للرواية العربية بأبوظبي، المعروفة باسم جائزة البوكر، وأحضرت معي قصاصات الصحف التي نشرت أخبار القضية وصور الطفلة المغتصبة، وكذلك ملخص لفكرة الرواية في سطور؛ وخلال أيام الورشة كتبتُ الفصل الأول. وبعد ذلك استغرقتُ خمس سنوات لكتابتها. مُلاحقة الماضي ينتظر الكثيرون من كُتّاب البلدان العربية أن يكتبوا عن الحرب فتبدو أي كتابة خارج إطار الحرب في هذا التوقيت محل استغراب واستنكار أحيانًا بالنسبة إليهم، وهذا ما حدث عند صدور رواية “أرض المؤامرات السعيدة”. يقول الأهدل “جميع الذين قرؤوا رواية ‘أرض المؤامرات السعيدة’ توقعوا أن أحداث الرواية تتمحور حول الحرب الدائرة الآن في اليمن، ولذلك شعر البعض بخيبة الأمل لأنها تتحدث عن فترة تاريخية سابقة. لكن وظيفة الأدب تختلف عن وظيفة الصحافة، فالصحافة ينبغي أن تلاحق الحاضر، بينما الأدب عليه أن يُلاحق الماضي. أن ينتظر حتى يمضي الحدث ثم يقوم بتأويله. الحياة حلم والأدب هو تأويلها. نحن الروائيون نشبه في ناحية من النواحي النبي يوسف من حيث الموهبة على تفسير الأحلام. لكننا بواسطة الخيال الأدبي نقوم بتفسير الواقع. وكأننا نقوم بالعمل بطريقة معكوسة، فعملنا هو الحلم الذي يفسر الواقع! وفي كل الحالات لا بد للحلم الذي نراه في نومنا أو الحدث الواقعي الذي نراه في يقظتنا أن ينتهي لكي نبدأ بتحليله وتأمله ثم تأويله”. تُصوّر هذه الرواية وغيرها من أعمال الأهدل استشراء الفساد الأخلاقي والسياسي في المجتمع اليمني، وهو ما يمكن أن يُعطي انطباعًا عما يؤمن به الكاتب من رؤية لدور الرواية والأدب بشكل عام في أن يكون بوقًا ضد المظالم وغير ذلك. يرى الأهدل أن مهنة الأدب ليست مريحة، فهي مهنة تنطوي على قدر كبير من المخاطر، لأن الأدب هو القاطرة التي تسحب المجتمع نحو التطور الأخلاقي والروحي. وهذا الدور يمكن ملاحظته بصورة واضحة في الأمم المتقدمة التي لعب الأدب دوراً مهماً في اعتناقها مبادئ حقوق الإنسان بالصيغة التي نعرفها اليوم. ولذا ففي مجتمعات دول العالم الثالث التي ترفض عن جهل الكثير من هذه المبادئ، فإن دور الأدب المحلي هو خوض معركة حقيقية لتنوير الناس بحقوقهم. يعتقد الأهدل بأن أي روائي يتحدث عن ذاته فلن يكتب سوى رواية واحدة ثم يعيد تكرارها إلى ما لا نهاية. فالرواية برأيه هي مجتمع صغير، وعلى الروائي أن يتواضع ويخرج من ذاته ويسمح لآخرين بلعب دور البطولة في رواياته. إن الروائي الذي يسمح بظهور العشرات من الشخصيات في روايته ويوازن بينها هو ليس فقط روائي ماهر في صنعة الرواية، ولكنه أيضاً إنسان متواضع بالمعنى الإيجابي لكلمة التواضع. محاولة لتأمل الفن الروائيمحاولة لتأمل الفن الروائي وعن طبيعة شخوص رواياته، يلفت الأهدل إلى أنه في البدايات كان يختلق الشخصيات من خياله، ولكن بالتدريج فهم أنه كان يخلق شخصيات ورقية، مستمدة من تأثير قراءاته للروايات العربية والأجنبية. ولكن عندما اتجه إلى ملاحظة أشخاص من الواقع وتدوين الملاحظات عنهم ثم مزج شخصياتهم داخل حكاية أدبية، فقد شعر أن ما يكتبه صار أفضل. وهذا الانطباع لمسه أيضاً من القراء. فالقارئ حساس جداً للشخصية الورقية المسطحة والشخصية التي يشعر أنها من لحم ودم. كتب الأهدل في القصة والرواية، وهو يؤمن بأن “الفكرة” هي التي تقترح القالب المناسب لها، يقول “على سبيل المثال أكتب الآن مجموعة قصصية تنتمي إلى أدب الخيال العلمي، ولذا فإن القالب جاهز، ولكنني أبحث عن موضوعات تصلح أن تتحول إلى قصص خيال علمي. وأحياناً توجد فكرة تمتلك طاقة للتمدد على المئات من الصفحات، فهي فكرة يناسبها القالب الروائي”. الرواية اليمنية ويرى الكاتب اليمني أن مسألة “التابو” تختلف من جيل إلى جيل، ومن ثقافة لأخرى. وما يبدو اليوم خطاً أحمر، قد لا يكون كذلك بعد مئة عام. لقد حُكم بالإعدام على الفيلسوف اليوناني سقراط لأنه يُسفه آلهة الأثينيين، ولكن اليوم من ستهتز له شعرة إذا ما نهض فيلسوف وسخر من كبير الأرباب زيوس! مُبيّنا أن الرقابة لا تفيد أحداً، لا المؤلف ولا القارئ. وقد حاول أن يضع تجربته مع الرقابة خارج حساباته – قدر الإمكان- ليكتب وفقاً لما يمليه عليه ضميره. يرى الأهدل أن الرواية اليمنية تحقق تطوراً فنياً متدرجاً وملموساً في أعمال الجيل الروائي الجديد، وأيّ شخص يتابع ما صدر منذ بداية الألفية الجديدة وحتى اليوم سيتحقق من حدوث هذا التطور. ويظل العائق الأكبر أمام انتشار الرواية اليمنية هو خلو اليمن من دور النشر، وتوقف جميع المجلات والملاحق الثقافية عن الصدور منذ عام 2015 بسبب الحرب، وهذا يجعل التفاعل بين العمل الروائي والمجتمع ضعيفاً للغاية. وعدم توفر نسخ من الأعمال الروائية اليمنية التي طبعت كلها في الخارج في مكتبات صنعاء وعدن وبقية المدن اليمنية هو بمثابة حكم بالإعدام على الأدب الروائي اليمني.
مشاركة :