يوسف مكي المجتمع المدني، مفهوم استخدم أول مرة، إبّان نهوض الحضارة الإغريقية، ويحسب لأرسطو أنه أول من استخدم هذا المفهوم. حيث قسم المجتمع الأثيني، إلى أشراف، مكتملين إنسانياً، يحق لهم المشاركة في صنع القرار، عن طريق الانتخاب المباشر، وأفراد غير مكتملين إنسانياً، لا ينبغي أن يكون لهم أي دور في صناعة القرار، وهؤلاء هم حسب رؤية أرسطو العبيد والنساء والبرابرة. بمعنى آخر، صفة المجتمع المدني، بمدينة أثنيا تنسحب على الطبقة الأرستقراطية فقط، ولا تشمل جميع من استوطنوا بالمدينة. لكن هذا المفهوم، جرى تخطيه في المجتمعات الأوروبية، منذ عصر الأنوار، حيث طرح مبدأ المساواة، بين البشر. ولم تعد مؤسسات المجتمع المدني مقتصرة على البرلمان، بل شملت جميع أوجه النشاطات الاجتماعية. لكن تطور تلك المؤسسات هو محصّلة سياسية لنتائج اقتصادية واجتماعية وفكرية. وهو أيضاً نتاج حراك طويل، تخوضه المجتمعات الإنسانية، وهذه المؤسسات، هي نتاج حراك طويل، تخوضه المجتمعات الإنسانية. وشرط نشوء هذه المؤسسات ونجاحها هو توفر مناخ ملائم يسمح بحل المشاكل عن طريق فتح آفاق الحوار والمناقشة الحرة، واحترام الرأي والرأي الآخر. والشرط الآخر، لنجاحها، هو تحول المجتمع بأسره إلى مجتمع منتج، قادر على أن يستخدم قواه، ومحركاته الذاتية، وأن يزج بها في النهوض بالمشاريع الوطنية، وأن يصنع ثروة تكفي الجميع، يجري توزيعها بشكل عادل، وعلى أساس يكفل لكل أفراد المجتمع نصيباً في الثروة العامة، تكفي لتلبية الاحتياجات الأساسية، من الغذاء والكساء والصحة والمسكن والتعليم والثقافة. إن ضمان تحقيق ذلك، من شأنه أن يحقق التوازن الاقتصادي والاجتماعي، الذي يمكن أن يقوم عليه التوازن السياسي داخل أي مجتمع. هذا التوازن يعبّر عن نفسه ببروز مؤسسات دستورية وحرفية وجمعيات أهلية، تمثّل الوعاء النقي للحوار، وتكون في النهاية مصدراً من مصادر التشريع، وصدور القرارات. ولأن أهم قوانين الحياة هو الحركة، فإن القوانين التي تصدر في مرحلة ما، سوف لن يكتب لها النجاح، إذا اتصفت بالجمود والسكون. ولذلك فإن أي حراك سياسي أو اجتماعي، ليس سوى مقدمّة لحراك آخر أعلى.والنتيجة أن قيام المجتمع المدني، وتدشين مؤسساته، كما أثبتت التجربة التاريخية في المجتمعات المتحضرة، يكتسبان أهمية، في تحقيق عملية الانتقال إلى الشكل الدستوري، ولذلك لم يعد تشكيل تلك المؤسسات بالمجتمعات المتحضرة، ترفاً ومطلباً مؤجلاً، بل هو أمر ملحّ لبناء العلاقة بين المجتمع وبنائه الفوقي. فهذه المؤسسات، كما هو سائد بالدول المتقدمة، هي المعبّر الحقيقي عن الرأي العام، وهي التي تلفت الانتباه إلى أوجه القصور والتقصير، في ممارسات السلطة التنفيذية والتشريعية، وهي التي تخلق قوة ضغط حقيقية لصيانة العقد الاجتماعي، وتفتح أعين المعنيين، من الجهات الرسمية، على مصالح لم تكن تراها، أو أنها تتجاهلها، لأسباب أو ظروف خاصة بها.إن مؤسسات المجتمع المدني، هي الحفاظ على السلم الاجتماعي، وتحقيق التوازن بين السلطة والجمهور، والعمل على تحقيق انسجام سياسات البناء الفوقي مع الأحاسيس والمشاعر والمزاج العام للمواطنين.وإذا ما ساد العجز أو الانسجام، فإن دور مؤسسات المجتمع المدني، ينبغي أن يكون حاسماً، في منع الانهيار، لأن البديل عن ذلك، هو سيادة الوسائل غير المشروعة، وانفراط السلم، وغياب الأمن، وهو ما شهدته المجتمعات العربية، في البلدان التي طالها ما بات معروفاً بالربيع العربي. لقد حاولت الأنظمة الشمولية، فيما مضى أن تحكم قبضتها على وسائل التأثير في الرأي والتعبير، إضافة إلى إحكامها القبضة على أجهزة القوة في الدولة، ظناً منها أن ذلك سوف يمكّنها من تجنب الاستجابة لمطالب الناس. ذلك، رغم أنه وفّر لها غطاء أمنياً، لمرحلة، فإنه انفرط عند أول مواجهة حقيقية بين الجمهور ومؤسسات الدولة، فكانت النتيجة انهيار نظم وتضعضع كيانات وطنية، وأكثر من خمسة وعشرين مليون لاجئ عربي، خارج أوطانهم. لقد فقدت القبضة الحديدية سحرها، وكان البديل عن ذلك للأسف، سيادة الفوضى وانفراط الأمن وضياع الأوطان. إن البلدان العربية جميعاً، تواجه الآن صدمة ثورة العصر الكبرى... ثورة الاتصالات والمواصلات، والفضائيات وجبروت الشبكات العنكبوتية، وقد تحوّل العالم بأسره إلى قرية صغيرة، وينبغي أن تدرك القيادات بالبلدان العربية، أن نزعة المساواة هي نزعة إنسانية، لا يمكن تجاوزها، ومن الطبيعي، أن طريقة الحياة في البلدان المتقدمة، لها قوة جذب غلابة. علينا لكي نعيش بحرية وكرامة وجدارة، أن نلحق بهذا العصر، ونسابق الزمن، وليس من حل للولوج بقوة في عصر نهضة جديدة، سوى بالمضي قدماً في تدشين مؤسسات المجتمع المدني، وفتح الأبواب للهواء النقي، أبواب التفاعل والحوار. Yousifmakki2010@gmail.com
مشاركة :