نعرف عن أرنولد شونبرغ، أنه كان واحداً من أبرز الموسيقيين الأوروبيين عند بدايات القرن العشرين، لا سيما بكونه واحداً من مؤسسي الموسيقى الاثني عشرية في فيينا «الكابوس السعيد». ونعرف عنه أنه غالباً ما كتب كلمات أوبراته ومواضيعها بنفسه، على غرار سلفه الألماني الكبير ريتشارد فاغنر. ونعرف أنه كان إضافة الى هذا، رساماً جرّب حظه في إطار نوع خاص من التعبيرية الشاعرية... ولقد سبق لنا أن قدمناه في هذه الزاوية بالذات في مختلف نشاطاته الإبداعية تلك، كما لم يفتنا أن نتذكر أن واحداً من كبار الفلاسفة الأوروبيين في النصف الأول من القرن العشرين، ثيودور آدورنو، قد خصه بدراسة بالغة الأهمية تركزت بخاصة على أوبراه الأشهر «موسى وهارون». وبهذا بقي علينا أن نتناول هنا جانباً آخر، لكن ليس أخيراً من جوانب موهبته: نشاطه ككاتب ناقد ومؤرخ، وتحديداً في مجال الموسيقى. فالحال أن شونبرغ لم يتوقف طوال سنوات عديدة من حياته عن خوض الكتابة النقدية والتحليلية حول الموسيقى والموسيقيين، بحيث قد تجمعت له بين 1912 و1950 عشرات الدراسات المتنوعة التي يمكن القول إن كلا منها قد أثار في زمنه صخباً لا يقل عن الصخب الذي أثارته إبداعاته الأخرى. > غير أن شونبرغ لم يجمع تلك الدراسات بنفسه بل جُمعت مرتين من طريق غيره، المرة الأولى في العام 1950 قبل فترة يسيرة من رحيله، ما أتاح له مشاهدة النسخ الأولى من الكتاب الذي صدر حينها في نحو 224 صفحة ليضم نحو خمس عشرة دراسة. أما المرة الثانية، فكانت في العام 1975 حين صدر الكتاب في حجم مضاعف، أي في أكثر من 550 صفحة هذه المرة، وقد أضيفت إليه عشرات المقالات والدراسات التي كان بعضها اكتشف بعد رحيل المؤلف وبعضها كان هو قد فضّل عدم نشره في حياته. وبهذا اكتمل في المرة الثانية، وفي كتاب ضخم نسبياً – لكن يقل قيمة عما كان محتوى الطبعة الأولى الى حد ما -، المتن الكتابي لمبدع كان يصر على خوض كل مجال إبداعي يمكنه الخوض فيه. > والحقيقة أن المفاجأة الطيبة هنا كانت أن مهارة شونبرغ في الكتابة والتحليل لم تكن في شكل عام أدنى من مكانته في التلحين أو الرسم. ناهيك بأن ثمة من بين دراسات الكتاب ما أدى الى نوع من إعادة النظر في علاقة حياة شونبرغ بإنتاجه وكذلك نظرته الى بعض رفاقه وأسلافه. وحسبنا هنا أن نقرأ دراستيه عن ماهلر وبرامز، أو العشر دراسات التي ترد تحت عنوان «موسيقى حديثة» أو «الموسيقى الفولكلورية والنزعة القومية» ثم بخاصة «القلب والعقل في الموسيقى»، وتلك الدراسة الخاصة التي كتبها بالفرنسية تحت عنوان «نعود دائما»... لنتيقن من أن الرجل كان ينظر بجدية مطلقة الى كتاباته الموسيقية، بل يعتبرها في بعض الأحيان جزءاً أساسياً من إبداعه الموسيقي نفسه، ولعل خير مثال هنا هو ذلك النص الذي أعطاه عنوان «موسيقى جديدة، موسيقى بائدة، الأسلوب والفكرة»، ففي هذه الدراسة التي كتبها شونبرغ في العام 1946 لتكون بهذا أحد آخر نصوصه، حرص على أن يصفي حسابه مع كل أولئك الذين وقفوا ضد تجديداته منذ بدايات القرن، معتبرين الموسيقى التي يبدعها – وكذلك موسيقى رفاقه في حركته التجديدية من ألبن برغ الى أنطون فيبرن وحتى سترافنسكي - «فناً بارد الأحاسيس يبتدعه مدعون يلحنون من دون أن يتركوا مكاناً للقلب والعاطفة في أعمالهم». > هذا كله نجده بين صفحات هذا الكتاب الضخم الذي لا يخلو من صفحات شاعرية تضيء كالنيازك، وسط زحام من النصوص النظرية والتقنية أبدعها ذاك الذي قال عن نفسه يوماً: «إنني قصير القامة، قصير الساقين، أصلع الشعر على رغم هالة من بعض الشعر الأسود تحيط برأسي. أنفي كبيرة ومدببة. عيناي سوداوان كبيرتان وحاجباي كثيفان. ربما كان فمي أفضل ما لدي. معظم الوقت أسير ويداي متشابكتان وراء ظهري، فيما كتفاي منحنيتان». فبهذه العبارات وصف أرنولد شونبرغ نفسه، حين طُلب منه ذلك ذات مرة. والحال أن شونبرغ الذي قدم هذا الوصف كان شونبرغ الرسام أكثر منه شونبرغ الموسيقي. بل حتى شونبرغ الكاتب الساخر بقدر ما كان شونبرغ الرسام والموسيقي، هو الذي كان في مطلق أحواله علماً من الأعلام البارزين في عوالم فيينا بدايات هذا القرن. بل كان يعتبر نفسه بموافقة الآخرين، مَعلماً من معالم عاصمة الثقافة والانحطاط الأوروبيين في تلك المرحلة. > والحديث عن الانحطاط لن يكون هنا من قبيل المصادفة. فالحال أن ما ابتكره شونبرغ في عالم الموسيقى، هو الذي علم نفسه بنفسه باكراً، وأطلق عليه اسم «الموسيقى الاثني عشرية»، اعتبر من كبار النقاد والمؤرخين الكلاسيكيين فاتحة لرسم صورة لانحطاط الموسيقى في زمننا. وحسبنا اليوم أن نقرأ رواية «الموت في البندقية» لتوماس مان، لكي نكتشف خلف الحوارات القاسية التي تدور من حول الحداثة بين بطلها الرئيسي فون آيشنباخ وصديقه، صورة - تنتمي الى شونبرغ بالتأكيد - عن سجالات زمن الانحطاط ذاك. غير أن ما اعتبر في ذلك الوقت انحطاطاً، سرعان ما دخل عالم كلاسيكية القرن العشرين. وموسيقى شونبرغ التي كانت بدعة وهرطقة معه، سرعان ما صارت موسيقى زمننا السائدة، بعد أن تابع خطواته طلاب درسوا عليه كان من أشهرهم بيرغ وفيبرن، ثم جاء ثيودور آليس وميسيان وبوليز وغيرهم، ليعلنوا في نهاية الأمر انتصار شونبرغ على مناوئيه، أو انتصار أول الحداثة على آخر الكلاسيكيين. > إذاً، كان شونبرغ بداية ثورة في الموسيقى، قامت على أساس استخدام المؤلف لسلالم الموسيقى التي كان عددها في الأصل دزينة من السلالم لم يعتد المؤلفون أن يستخدموا، منها قبل ذلك، سوى سبعة سلالم. لقد قامت ثورة شونبرغ على أساس إعادة دمج السلالم الناقصة وإعطائها في مجال الهارموني أهمية توازي أهمية السلالم الأخرى، ما جعل للموسيقى الحديثة اثني عشر صوتاً متساوية، ومن هنا جاء اسم «الموسيقى الاثني عشرية» التي أعاد شونبرغ تنظيمها تبعاً لأربع تقنيات، واحدتها في الاتجاه المعتاد، والثانية في الاتجاه المعاكس، والثالثة في اتجاه يسمى اتجاه المرآة، والرابعة في اتجاه معاكس للمرآة. وهذا كله أدى الى خلق الموسيقى التسلسلية. > هذا كله قد يبدو الآن معقداً، لكن أهميته تكمن في أن مبتكره، أو بالأحرى مكتشفه، لم يدرس الموسيقى في أي معهد، بل درسها عبر استماعه المتنبه والدقيق لأعمال أساتذته الكبار باخ، موزار، بيتهوفن وفاغنر. فالحال أن شونبرغ منذ اكتشفت الموسيقى الكلاسيكية وهو، بعد، صبي، لم يكف لحظة عن التطلع الى اليوم الذي سيصبح فيه مؤلفاً موسيقياً، هو الذي لم يكن أكثر من ابن عادي لبقال متواضع. ولقد كانت أمه هي التي أعطته حب الموسيقى، فتعلم وحده العزف على الكمان والفيولونسيل، وبدأ باكراً جداً يكتب أنواعاً بدائية من موسيقى الحجرة الوترية. وهو كان في الثامنة عشرة حين التقى بزملنسكي الذي سيصبح أستاذه وملهمه، ويزوجه أخته. > في 1907، وكان قد أضحى في الحادية والثلاثين من عمره، لعب شونبرغ في فيينا قطعته «رباعي من مقام ري كبير» التي أتت لتتوج بداياته وتعلن ولادة موسيقي كبير، ولقد لعب بعدها اثني عشر تأليفاً للبيانو كان قد كتبها على شكل أغنيات في 1898. غير أن عمله الأول الذي لفت الأنظار حقاً الى تجديداته، كان سداسي الوتر الذي عرف باسم «ليل مشع» ولحنه على قصيدة لريتشارد دهمل. ولقد بدا واضحاً أن شونبرغ يحاول هنا أن يتخطى للمرة الأولى المستويات التي كانت قد وصلت إليها حداثة فاغنر. وفي 1901، سافر شونبرغ الى برلين حيث لم يكف عن العمل منذ ذلك الحين وعن فرض وجوده في دائرة واسعة تتخطى حدود فيينا مسقط رأسه. > وفي برلين، كتب أولاً قصيدته السيمفونية «بيلياس وميليزاند» التي كشفت عن تأثره بفاغنر وريتشارد شتراوس، لكن كذلك عن تجديد تقني لن يكف بعد ذلك عن ولوجه في أعماله التي راحت تتوضح فيها أكثر وأكثر ابتكاراته التي قادته الى الموسيقى الاثني عشرية، والموسيقى التسلسلية. وستمضي العقود التالية من حياته، وهو يبتكر ويؤلف ويعد خلفاءه، في الوقت الذي يؤكد أنه موسيقي وليس مجرد منظر. في أواسط الثلاثينات، اضطهد النازيون شونبرغ، على رغم اعتناقه البروتستانتية، فهاجر الى الولايات المتحدة التي سيرحل فيها عام 1951 وهو في قمة مجده. alariss@alhayat.com
مشاركة :