ليسوا على خطأ أولئك النقاد الذين لا يتوقفون عن إيجاد الكثير من القواسم المشتركة بين وودي آلن الأميركي وناني موريتي الإيطالي، بل إن «سوء التفاهم» الذي يطاول عمل ذاك يكاد يكون شبيهاً بسوء التفاهم الذي يطاول عمل زميله الإيطالي. الاثنان ممثلان يعملان بالإخراج حتى غلب على مسارهما المهني. والاثنان يكتبان أعمالهما، لا سيما حوارات أفلامهما بنفسهما. والاثنان قد يقومان ببطولة أفلامهما وقد يكتفيان بلعب دور صغير فيها. ناهيك بأن الاثنين مهووسان بما يمكن اعتباره «تصفية حسابات» إما مع العالم المحيط بهما، وإما مع العالم بالمعنى العريض للكلمة. أما سوء التفاهم الأساسي الذي «يجابههما» فيكمن في ذلك التساؤل الدائم عما إذا كنا في صدد أفلامهما أمام أعمال هزلية أم أمام أعمال «أكثر جدية» وتصل أحياناً إلى حدود العمل الدرامي. فإذا أضفنا إلى هذا، ذلك البعد «النرجسي» – وفق البعض – الذي يطبع الكثير من أفلام كل منهما – سنجدنا أمام ما يشبه «التطابق» وحتى في المصير الذي جعل كلاً منهما يخرج من مولد «كان» الأخير إما خائب المسعى وبلا حمّص – بالنسبة إلى موريتي الذي خاض فيلمه الأخير «أمي» المسابقة الرسمية - وإما غاضباً - كحال وودي آلن – الذي يبدو أن النقاد الذين أُعجبوا بجديده «الرجل اللاعقلاني» الذي عُرض خارج المسابقة، لم يكونوا كثراً. الذات ولو مواربةً يقيناً أن لائحة المقاربات بين الإيطالي والأميركي يمكن أن تطول أكثر، لكن رصدها ليس هدفنا هنا، بل الهدف هو التوقف عند «أمي» الذي – حتى وإن كان فيه الكثير من العيوب وضروب التراجع عما كان موريتي قد حققه في أفلامه الأخيرة – لا شك في أنه جاء أفضل من فيلم وودي آلن كثيرا، بل كان يستحق جائزة ما، بحيث دُهش كثر حين لم تعطه لجنة الأخوين كون أية جائزة على الإطلاق. مهما يكن، لعل أهم ما ميّز «أمي» كان أن كاتبه - مخرجه إنما عاد فيه إلى سينما سيرته الذاتية بعد غياب طويل عن هذا النوع تواصل منذ عام 1998 حين قدم في «كان» نفسه واحداً من أجمل أفلامه وأقواها وهو «أبريل» الذي كان نوعاً من الاستكمال لفيلمه السابق يومذاك «أجندتي العزيزة» (1993) الذي كان عرض في «كان» أيضاً حيث كوفئ بجائزة الإخراج. ونعرف أن موريتي نال بعد ذلك في المهرجان نفسه، وإنما في عام 2001 السعفة الذهبية عن تحفته «غرفة الابن» الذي قطع فيه يومذاك، بالتأكيد، مع الحسّ الكوميدي الذي كان يطبع أفلامه الأولى، تلك الأفلام التي جعلته يُحتسب في خانة الكوميديا. مع «غرفة الابن» كنا أمام دراما حقيقية موضوعها الموت حتى وإن كانت نهاية الفيلم اتسمت بمقدار كبير من التفاؤل والتماشي مع الحياة كما هي. ولنبادر هنا إلى القول في السياق ذاته أن عمل ناني موريتي الجديد «أمي» هو الآخر فيلم عن الموت... لكنه لا يتسم بذلك المقدار من التفاؤل، ناهيك بأنه أكثر من «غرفة الابن» التصاقاً بسيرة مخرجه، حتى وإن كانت الشخصية المحورية هنا امرأة مخرجة لعبت دورها مرغريتا باي، فيما لم يلعب صاحب العلاقة نفسه – موريتي – سوى دور شقيقها بعدما لعب في «غرفة الابن» دور الأب الذي يفقد ابنه. والحال أن هذا كله يشكل لعبة مرايا واضحة سنعود إليها بعد سطور. أما هنا فلا بد من العودة قليلاً إلى فيلموغرافيا موريتي لنوضح كيف أن من المهم جداً التركيز هنا على عودته إلى السيرة الذاتية بعد سنوات طويلة من الابتعاد عنها، حيث نجده في فيلميه الكبيرين الفاصلين بين «أبريل» و «أمي» يحقق تالياً لـ «غرفة الابن»، عملين يواصل فيهما تصفية حساباته، «السياسية» بالأحرى، مع القوى السياسية المتحكمة بمصير الشعب الإيطالي. فهو بعدما كان في أفلام له أولى مثل «أكفي نفسي بنفسي» (1976) و «أحلام ذهبية» (1981) و «انتهى القداس» (1985) لا سيما «الحمامة الحمراء» (1989) قد صفى حسابه مع حزبه الشيوعي كما مع الديموقراطية المسيحية في آن واحد. صفى تلك الحسابات مع الثري برلسكوني الذي حكم إيطاليا لفترة عمّ فيها الفساد ذلك في شكل لا سابق له، ثم مع الفاتيكان تباعاً في «القايمان» (2006) و «صار لدينا بابا» (2011). صحيح أنّ في كل هذه الأفلام السياسية نوعاً أيضاً من تصفية الحساب مع الذات كان على أية حال دنا منها في أفلام مثل «رياضة بولو الماء» و «هوذا البامبو» سبقت دنوه من ذاته في «أجندتي العزيزة» و «أبريل»، غير أن السياسة ظلت طاغية بحيث كان النقاد في حاجة إلى تحليل معمّق كي يروا، مثلاً، في «صار لدينا بابا» نوعاً من الكناية عن أزمة المبدع في لحظة انتصاره. حوا أم تحتضر كان من البدهي للوضوح المطلق في هذا المجال، أن يُحفظ لعمل أكثر دنواً من الذات. لعمل يقدّم فيه المخرج نفسه من دون قناع. صحيح أنه لم يتخلَّ عن هذا القناع في «أمي» لكنه أتى قناعاً شديد الشفافية بحيث بالكاد يلحظه أحد. أتى قناعاً أنثوياً على شكل امرأة لم يشكّ أحد منذ اللحظات الأولى للفيلم في أنها هي هنا الأنا - الآخر لناني موريتي. فمرغريتا باي، الممثلة الرائعة التي سبق أن مثلت في الفيلمين السابقين لموريتي، كانت هنا في «أمي» تماماً ما كانه مارتيشلو ماستروياني في «ثمانية ونصف» لفيلليني قبل أكثر من خمسين عاماً. كانت قرينه، القناع الممحو تقريباً الذي آثر المخرج أن يتقدم على الشاشة عبره. لماذا اختار موريتي امرأة لا رجلاً للعب شخصيته؟ حتى هو لا يمكنه أن يجيب. ولكن من المؤكد أنه أراد أن يوصل لعبة المرايا إلى مستوى قلما أوصلها مبدع في عمله من دون أن يحاول الادعاء أن الشخصية المحورية في الفيلم لا يمكن أن تمثله، بل على العكس تماماً: كان هذا التمثيل هنا صارخاً حتى ولو أن موريتي نفسه يلعب في الفيلم دور الأخ الهادئ المتصالح مع نفسه، والذي يكرس وقته لخدمة الأم المحتضرة على عكس الأخت المخرجة التي بالكاد تتمكن من إعطاء ما يكفي من الوقت والطاقة لمواكبة الأم في أيامها الأخيرة. فهل أراد موريتي من خلال هذه القلبة في الأدوار، أن يصل إلى نوع من التصالح مع ذاته تجاه موت أمه في الحقيقة؟ هل أراد من خلال إهمال المخرجة – النسبي – لمعاناة أمها، ومناقشاتها الدائمة مع أخيها حول هذا الأمر، أن يصل إلى نوع من إسقاط الذنب تجاه الأم الراحلة، والتي كانت قد ظهرت حقاً في بعض مشاهد فيلم «أبريل» قبل أكثر من ربع قرن؟ ليس بالتأكيد... المرجّح أكثر هو أن الفيلم يسعى لإيجاد أعذار لمرغريتا تبرّر – ولو جزئياً – تقاعسها عن الاهتمام بالأم، وعلى الأقل مقارنة بما يفعل الأخ. ففي الوقت الذي كانت الأم تلفظ أنفاسها الأخيرة على مدى أيام صعبة، كانت مرغريتا منهمكة في إنهاء تصوير فيلم جديد لها يدور حول الصراعات العاملية ضد رجل أعمال أميركي (لعب دوره الهوليوودي جون تورتورو في شكل بدا أقرب إلى الكليشيه ليكون أضعف ما في الفيلم الحقيقي، والذي يصوّر في آن واحد)، وكانت كذلك تعاني من فشل فيلمها السابق نقدياً، كما تعاني من اكتشافها إدمان ابنتها المراهقة المخدرات وسعيها إلى إبعادها منها عبر دمجها عاملةً في فيلمها. وهي في الوقت نفسه كانت تنفصل عن رجلها بعد خلافات حادة. واضح في سياق الفيلم أن كلّ هذا جعلها على حافة الانهيار العصبي ليبعدها عن ذلك الاهتمام المطلوب بأمها. في الحقيقة أن أداء مرغريتا باي الواقفة دائماً على حافة الانهيار والساعية بأي ثمن كان إلى تسوية أمورها مع ما تعيشه، ساعد كثيراً على تحقيق نوع ومقدار لا بأس بهما من التعاطف معها حتى وإن كان حضور ناني موريتي على الشاشة في دور الأخ الذي يبدو، على عكسها أكثر برّاً بوالدته، قد أدى إلى هزّ صورة مرغريتا بعض الشيء ولو من خلال المقارنة بين اهتمام كل منهما بالوالدة التي شكّل موتها محور الحدث الرئيسي في الفيلم بالتوازي مع إنجاز تصوير مرغريتا فيلمها. من هنا، يمكن القول أن ناني موريتي، كمخرج للفيلم وكاتب له، لم يفته أن يكون منصفاً بعض الشيء، ليس فقط في مجال «تبرير الذات» بالنسبة إلى موقف مرغريتا من موت الأم، بل كذلك بالنسبة إلى مقدار اللوم الذي ينبغي توجيهه إلى مرغريتا - موريتي. من هنا، ما نعيد الإشارة إليه هنا من أن الفيلم في الوقت الذي يمكن اعتباره عملاً فنياً جيداً وإن بحدود، يتعين النظر إليه أيضاً باعتباره تصفية إضافية مع الذات يقوم بها موريتي، بعدما صفى حساباته – كثيراً في بعض الأحيان وجزئياً في أحيان أخرى – مع العالم الخارجي... أما من الناحية الأخلاقية فلعل من الأحرى أن نقول أن الفيلم جاء في نهاية الأمر تبريرياً عرف فيه مخرجه كيف يلعب لعبة مرايا متقاطعة ومتعاكسة من الواضح أنه يتقنها تماماً. والمرجح أن انكشاف هذه اللعبة هو ما أفقد الفيلم بعض قيمته وجعله يُحرم في نهاية مهرجان «كان» من جائزة أو أخرى، فنياً على الأقل، يستحقهما.
مشاركة :