القبيلة.. كتلة صافية أم خليط متجانس؟

  • 11/7/2018
  • 00:00
  • 8
  • 0
  • 0
news-picture

لعل الإشارة القرآنية للقبيلة في قوله تعالى: «وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا..» تؤكد على رسوخها، غير أن ما لفتتِ الآيةُ الانتباهَ إليه وأكدت عليه هو أنَّ جَعْلَ اللهِ الناسَ شعوبًا وقبائل إنما هو لغاية نبيلة تتمثل في قوله تعالى: «لتعارفوا»، لكنَّ البعض جَانبَ هذه الغاية فاستبدل التفاخر والتنابز بالتعارف في قلب متعمد لما نصت عليه الآية الكريمة. وحينما نتأتى لمسألة انتساب أفراد أي قبيلة لها نجد أحيانًا (مبالغات كبيرة) في تأكيد انتساب أفرادها (جميعهم) لأصل واحد، ولذا فنحن إزاء هذه المبالغات أمام احتمالات ثلاثة: الأول- أن انتساب أفراد القبيلة لها جاء من كونهم (جميعهم) يتحدرون فعلاً من أصل واحد وفق نَسب صحيح لا يخالطه الشك. لكنَّ الذي يدحض هذا الاحتمال هو أنه حينما يُواجَه القائل به بحقائق على شاكلة: هل تُوافق على أن أفراد قبيلتك كلهم لهم نسب واحد يجمعهم؟ عندها يأتي جوابه مستثنيًا رُبع القبيلة ليرمي به خارج إطار النسب المنتسبة إليه القبيلة؛ تحاشيًا لالتقاء نسبه مع نسب هذا الربع لاعتبارات معينة. ثم تذكِّره بكمٍّ وافرٍ من الأسماء في القبيلة وبأنها وباعترافها جاء أجدادها من قبائل أخرى منذ زمن قديم فنزلوا في القبيلة واكتسبوا مسماها، ليأتي جوابه بالإقرار. ثم تسأله عن البقية الباقية، هل تملك من الأدلة والبراهين والوثائق -وليس فقط ما يردده النسَّابون- ما يثبت انتسابها لأصلها (جدها) المنتسبة له القبيلة؟ ليأتي الجواب بأن الغالبية منها ربما لا تتعدى معرفتها بنسبها جدَّها الخامسَ، فضلاً عن أن تصل إلى الجد المنتسبة له القبيلة، وبالتالي لم يتبقَّ إلا فئة قليلة جدًّا جدًّا ربما يصح انتسابها للجد الذي تنتسب له القبيلة، وهذه الفئة القليلة جدًّا تتداخل مع الاحتمال الثاني الذي يميل إلى أن كل قبيلة هي في الأصل عبارة عن أسرة صغيرة نزلت بقعة ما ثم سُميت هذه البقعة باسم رب الأسرة، ومع توالي القرون جاء أفراد كثيرون وأُسَر عديدة من جهات شتى وأعراق وقبائل مختلفة ونزلوا في نواحٍ من تلك البقعة التي أصبحت تُنسب لرب الأسرة الأولى ومن ثُم أصبح هذا (الخليط الكبير) يسمى قبيلة منسوبة للأسرة الأولى التي لا تُشكل إلا رقمًا صغيرًا جدًّا في تعداد القبيلة التي غالبية أفرادها خليط من أنساب شتى. الاحتمال الأخير- أن انتساب أفراد القبيلة للقبيلة جاء بعد تواطُؤِ مجموعاتٍ شتى من الأسر ذات الأنساب المختلفة على مسمى معين للبقعة التي تقطنها هذه المجموعات وأصبح يُطلق هذا المسمى على أفرادها ومن نزلها بعدهم فتشكل بهذا مسمى القبيلة. الأعجب من هذا أن انتساب أفراد القبيلة لايتوقف على انتسابهم لجدهم القريب الذي تنتسب له القبيلة الواحدة، بل يتخطاه ليأتي مؤكِّدًا أن القبيلة (مع قبائل أخرى) تنتمي لجد أعلى تحدرت منه كل هذه الفروع (القبائل) ما يعني اتساع دائرة المبالغة وبالتالي زيادة الشك. من هذا يتبين لنا (ضعف وتهاوي) الاحتمال الأول عندما وجدنا أن أفراد القبيلة الواحدة لا يرتبط -ربما أكثرهم- بجدهم (الأصل) الذي ينتسبون إليه قَبَليًّا، بدليل أن جزءًا منهم يُستبعد لاعتبارات معينة، وجزءًا جاء وافدًا واكتسب المسمى بعد نزوله في القبيلة، والجزء المتبقي غالبيته لا يعرف حتى جده الخامس، وعلى هذا فأرى وجاهة الاحتمالين الثاني والثالث على الترتيب. ما أُريد التأكيد عليه هو أن أفراد أي قبيلة جميعهم -بوصفهم أفرادًا- لهم أنساب كريمة أصيلة لاشك فيها وكلهم لآدم، لكنْ ليس شرطًا أن هذه الأنساب (جميعها) تنتمي لذلك الجد الأصل الذي تتسمى به القبيلة فهنا يحضر الشك الديكارتي بقوة مفندًا المبالغات مجليًا الحقائق مؤكدًا على أن أي قبيلة ليس أفرادها (جميعهم) كتلة صافية يرجعون لأصل واحد، وإنما أكثرهم خليط متجانس، ثم إن الانتماء للقبيلة والتحالف معها لا حرج فيه ما لم يكن منافيًا للمبادئ الدينية والقيم الوطنية، ثم إن الأمر الأهم هو أن القبيلة ينبغي أن تبقى في إطارها الضيق مقابل المفهوم الواسع للدولة المدنية الحديثة.

مشاركة :