بيروت – انديرا مطر – «حاجتي إلى التبول جعلتني أنسى لحظة حرية انتظرتها لما يقارب السنة ونصف السنة. كان همي ايجاد مكان أتبول فيه أو عليه أو بداخله، ولكن أعين المنتظرين من الأهالي وكاميرات الصحافيين الاسرائيليين كانت في المرصاد لأية حركة نقوم بها أو كلمة نتفوه بها». بهذه المفارقة الهائلة يستهل محمد محمود فرحات كتابه الأول «سنابل العمر- بين القرية والمعتقل» الصادر عن دار بلال 2018. اللافت ان فرحات اصدر كتابه عن دار نشر غير معروفة في الأوساط الثقافية البيروتية، رغم ان ما يحتويه هذا الكتاب في أسلوبه ومادته من دون ادعاء بـ«روائيته» ومن دون ادراجه في تصنيف أدبي معين، قد يكون أفضل من كثير من الكتب التي تصدر اليوم تحت مسمى «رواية». والكتاب هذا هو مجموعة نصوص كتبها فرحات في أوقات متفرقة. نصوص مكتوبة بمزاج الاعترافات والشهادة وما يشبه السيرة الذاتية المتقطعة، التي تروي يوميات اعتقاله الممتدة الى اكثر من سنة، اضافة الى نقل عوالم قريته الجنوبية «جرجوع» ما قبل الحرب الاهلية وفي سنواتها الاولى. بعيداً عن بطولة وهمية يحتوي كتاب «سنابل العمر» تسعين صفحة عن «معتقل انصار» الذي أنشأه الاسرائيليون في بلدة انصار الجنوبية في اعقاب الاجتياح الاسرائيلي للبنان في عام 1982. في هذا المعتقل مكث محمد فرحات سنة كاملة مع كثير من شبان الجنوب وقلة من أبناء الطوائف الاخرى اضافة الى الفلسطينيين. شهادة فرحات عن يوميات المعتقل ليست بطولية. لا تدعي بطولة وهمية ولا تستجدي عطفا زائفا. فهي تروي يوميات الاعتقال بقسوتها ومحنتها الروحية والوجدانية، الى حد يجعل القارئ يتساءل كيف نسي ما تعرض له آلاف الشبان اللبنانيين في ذلك المعتقل الذي قد يكون أسهم في التأسيس لحزب الله لاحقا. فالمعروف ان الحزب هو وليد مجتمع التهجير والحرب الذي تعرضت له المجموعة الشيعية ما بين 1985 – 1996. ومعتقل انصار ببؤسه وقسوته كان احدى البؤر التي اسهمت في رمي آلاف الشبان في العراء اثناء الاعتقال وبعده، والذين لم يجدوا سوى حزب الله، بايديولوجيته الدينية في انتظارهم، على الرغم من انهم بمعظمهم كانوا من الشيوعيين. كرهت النباح تحاول شهادة محمد فرحات عن هذا المعتقل، ان تبين لحظة بلحظة، كيف يفقد الجسم البشري حرمته ويتحول الى فضلات؛ يمكن للبشر ان يفقدوا طبيعتهم البشرية عندما يرمى بهم في العراء والمهانات، كأن يرغموا على البقاء عراة في الشمس لساعات بينما هم ينبحون بناء على أوامر ضابط المعتقل، «كرهت النباح، ليس لأنه سلب انسانيتي، أو لأنه جعلني أعيش لحظات الهزيمة بحق، أو لأنه أشعرني بهشاشة العروبة وفينيقيا على حد سواء.. كرهت النباح لسبب آخر: كان علينا (انجازه) في لحظات عطشنا وتحت أشعة شمس حارقة». الفصل الآخر من الكتاب يتناول الحياة القروية لقرية الراوي الجنوبية «جرجوع» في قضاء النبطية، وفيها يروي فرحات طفولته بين الاعوام 1965 و1975 في مجتمعه الريفي الفقير. و«جرجوع» الراوي هي اهله وأقاربه واترابه الصغار الذين يعيشون في القلة والفقر وحياة الكفاف، كأنهم ثابتون على حالهم هذا منذ عقود ان لم يكن منذ قرون. وفي هذا الفصل ينقلنا الكاتب الى عوالم المشهد القروي، ومصطلحاته التي اضمحلت الا من ذاكرة من عاشوها وخبروها: من العلية في منزل اهله، الى الاحتفال الموسمي بـ«الكبة النية»، الى ساحة القرية، مساحة الفرح الوحيدة التي شكلت مسرحا لحلقات الدبكة لكنها اليوم «خالية من الفرح والناس والعشاق واصحاب العيون الجائعة.. هم ايضا صاروا مجرد ذكرى في تلك الزاوية الصغيرة من وعينا». غير ان الراوي في حكايا طفولته ينصب الفقر «ايقونة» باعتباره فضيلة اخلاقية. والفكرة هذه عن الفقر هي مزيج من تفكير ريفي زراعي وديني ممزوجا بما استبطنته العقيدة الشيوعية الاشتراكية في لا وعي الناس الفقراء بأنهم «ملح الارض». من الفيسبوك إلى الكتاب وقد يكون هذا الكتاب شهادة اصدق إنباء عن روح الشيعي القروي من كثير من الابحاث والروايات والشهادات، وخصوصا في نقله القطيعة بين جيل اهل الراوي المنتمين الى عالم الفقر والتدين الفطري، وجيل ابنائهم الذين شبوا في السبعينات وخرجوا الى زواريب القرية فوجدوا في طريقهم الحرب التي أخذتهم وطحنتهم على جبهاتها في بيروت وفي صنين كما في الجنوب. الراوي من هذا الجيل الذي قاده نضاله الحزبي الى معتقل انصار في عام 1982، وربما علينا ان نذكر ان فرحات بدأ تدوين نصوصه هذه على الفيسبوك ولم يفكر في نشرها الا بعدما اقترح عليه كثيرون جمعها في كتاب، ومنهم د. محمد علي مقلد الذي كتب تقديما لـ«سنابل العمر» نقتطف منه هذا المقطع «تذكرك نصوصه عن المعتقل بالاسماء اللامعة ممن كتب في ادب السجون، وما أكثرهم وما اكثر السجون في العالم العربي، لا لأضعه في مصاف عبدالرحمن منيف والطاهر بن جلول وفواز حداد وصنع الله ابراهيم وياسين الحاج صالح، فهو حديث العهد في مجال النشر والتأليف، ونأمل أن يكون كتابه باكورة لأعمال أخرى، بل لأشير الى انه دخل الى ناديهم من غير أن يقلد احدا منهم، أو أن يكون قد اطلع على اي من كتاباتهم، وأنه اقتحم هذا المضمار بالصدفة وبخجل ورهبة من غير ان يتوقع هذا القدر من الاعجاب بنصوصه الاولى».
مشاركة :