ما حدث في مصر قبل عدة أيام من استهداف حافلة للمواطنين المصريين الأقباط خلال توجهها نحو دير الأنبا صموئيل في محافظة المنيا المصرية وقتل سبعة مواطنين وإصابة 14 آخرين، لم يكن هو الحادث الأول الموجه نحو الأقليات الدينية في مصر، كما هو الحال أيضا في أكثر من دولة حيث يتكرر مثل هذا الاستهداف، فخلال العقود الأخيرة من القرن الماضي وما تلى ذلك من سنين مضت خلال القرن الحالي، فإن الجماعات المتطرفة التي تنسب نفسها إلى «الجماعات الدينية الإسلامية» تحت مسميات مختلفة، وجهت جل أعمالها نحو الأقليات الدينية، إلى جانب استهداف المفكرين والسياسيين الذي يدينون ويرفضون الأعمال الإجرامية لهذه الجماعات، وكان نصيب الشارع المصري من هذه الأعمال كبيرا، قياسا بالأوضاع المستقرة نسبيا التي تعيشها مصر مقارنة بأوضاع في دول أخرى مثل العراق وسوريا أو حتى تونس. من السهل والسطحية تفسير استهداف المسيحيين المصريين أو غيرهم من الأقليات الدينية أو العرقية، على أنه يستهدف دفع أبناء هذه الأقليات الى ترك أوطانهم الأصلية والهجرة إلى بلدان أخرى أكثر استقرارا وأمنا على حياتهم وحياة أفراد أسرهم، ناهيك عما يتوافر في تلك الدول من مناخ واسع لممارسة حقوقهم الدينية من دون تدخلات أو قيود أو تهديد من هذه الجهة أو تلك، لكن مثل هذه النظرة في اعتقادي هي تبسيط للأمور ونزع للهدف الجوهري من ورائها، فمثل هذه الأعمال الإرهابية الإجرامية، وان نجحت في دفع أعداد من أبناء الأقليات إلى الهجرة من أوطانها إلى بلدان أخرى، فإن النتيجة النهائية هي استهداف الوطن بكل مكوناته العرقية والدينية. من يقف وينفذ أو يدعم مثل هذه الجرائم، يعي تمام الوعي والمعرفة أن هذه الأعمال مهما بلغت القسوة والوحشية، فإنها في نهاية المطاف لن تصل إلى حد اقتلاع جميع أبناء الأقليات من أوطانهم، فالهجرة من الأوطان تحدث لأسباب كثيرة، سواء كانت بسبب الأوضاع الاقتصادية الصعبة والبحث عن مكان تتوافر فيه فرص أكبر للحصول على لقمة العيش، أو لأسباب أمنية مختلفة، كأوضاع سياسية غير مستقرة أو أمنية مثل الاستهداف المتعمد لهذا المكون الديني والعرقي أو ذاك، لكن مع ذلك نقول، ان الهجرة خارج الأوطان بقرارات طوعية تختلف كليا عن الهجرة القسرية، وهو ما يحدث بسبب تفشي الجرائم الإرهابية الموجهة إلى الأقليات. بالنسبة إلى مصر، فإن استهداف الأقليات الدينية، وتحديدا المصريين من معتنقي الديانة المسيحية (الأقباط)، فإن هذا ليس بالجديد، ولكن يلاحظ أن نوعية وعدد الجرائم الإرهابية الموجهة ضد هذه الأقليات الدينية تصاعد في السنوات الأخيرة، وخاصة بعد أحداث ما سمي بــ«الربيع العربي» وسقوط نظام الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك ومن ثم دخول مصر في صراع مع جماعة «الإخوان المسلمين» بعد الإطاحة بحكمهم إثر انتفاضة الثلاثين من يونيو عام 2013 ووضع الجماعة على لائحة الإرهاب المصرية، لكن هذه الجماعة تنفي حتى الآن أي صلة لها بالهجمات الإرهابية التي يتعرض لها الأقباط في مصر. مصر ومنذ الإطاحة بنظام حسني مبارك، لم تستعد بعد عافيتها السياسية والأمنية الكاملة، فالأوضاع الإقليمية المحيطة أسهمت بشكل كبير في ذلك، حيث الجوار الليبي تحول بعد جريمة حلف شمال الأطلسي المتمثلة في إسقاط نظام الزعيم الليبي معمر القذافي، تحول إلى مأوى خطير للجماعات الإرهابية، بل إن كثيرا من الجرائم التي شهدتها مصر في السنوات الأخيرة خطط لها ومول تسليحيا من داخل ليبيا، الأمر الذي دفع الجيش المصري إلى اتخاذ إجراءات عسكرية انتقامية، أضف إلى ذلك أن الأوضاع الأمنية غير المستقرة في قطاع غزة بعد سيطرة حركة «حماس» على القطاع، أسهمت هي الأخرى في تمكين الجماعات الإرهابية من رفع وتيرة أنشطتها الإجرامية داخل شبه جزيرة سيناء. رغم كل هذه الصعوبات والتحديات التي تواجه مصر في السنوات الأخيرة، ومع تصاعد الأعمال الإرهابية واستهدافها للأقليات الدينية والبنى التحتية الاقتصادية، فإن هذه الأعمال فشلت في شق الصف الوطني المصري، وانهيار الاقتصاد، فالنظام السياسي بدأ يوسع علاقاته الخارجية وبات يحظى بدعم دول العالم الكبرى، وخاصة أن النظام انتهج في الفترة الأخيرة سياسة التنوع في هذه العلاقات وعدم وضع أوراقه كلها على طاولة واحدة، إلى جانب ذلك أن الأقليات الدينية المصرية، وأعني بذلك الأشقاء الأقباط، باتوا يدركون تماما أن المسؤولية الوطنية ملقاة على عواتقهم جنبا إلى جنب مع أشقائهم المصريين المسلمين وغيرهم، ذلك أن المستهدف من مثل هذه الجرائم هو الوطن المصري بجميع مكوناته. فالانتماء الوطني لدى الأقباط المصريين هو انتماء أصيل، لا يمكن أن تقتلعه أو تهد من أركانه مثل هذه الجرائم، أضف إلى ذلك، أن الأقباط أنفسهم يدركون ويشاهدون على أرض الواقع ان الجماعات الإرهابية التي تستهدفهم، هي في نفس الوقت تستهدف أشقاءهم من الانتماءات الأخرى، ليس في مصر وحدها، وإنما في جميع الدول، حيث تنشط مثل هذه الجماعات الإرهابية، لهذا نرى أن هذه الجرائم رغم فداحة الخسائر البشرية التي تكبدها المسيحيون المصريون حتى الآن، فإن تمسكهم بوطنهم يزداد رسوخا وتزداد العزيمة لديهم للتصدي لآفة الإرهاب واجتثاثها من التراب المصري لمنع تحول مصر إلى مستنقع دموي كما هو الحال في دول الجوار العربي، فالشعب المصري بجميع مكوناته العرقية والدينية والمذهبية قادر على بلوغ هذا الهدف.
مشاركة :