عذرًا سيدتي الفصحى: فقد حارت كلماتي, وتعثرت نحوك خطواتي، وانكفأت دونك طموحاتي. لأنينك تحادرت دمعاتي، وعلى ضفافك رست حكاياتي، ومن أعماق فصولها تنفست غاياتي، وتيقظت تباريح ذكرياتي؛ لتشعل بالجوى نيران آهاتي، ليتها تذيب شرنقاتي، وتغسل ملح حسراتي, ليتها تحتويني وتهزم سيف زلاتي. عذرًا سيدتي الفصحى: فأنا وليدك الضائع، أنا من سحرته البروق اللوامع، فطار لبه يسارع، لما غشيته فتنة المقامع، أرخى عنانه في ركبها دون منازع، في لذة ليحتسي الزعاف الناقع, يقتات من خوانها أكلة الجائع، هيمان قد سجن الهوية بين الأضالع؛ ليشتري ود مدنية حلوة المراتع، حرباء قد شحذت أنيابها خلف البراقع, جذورها تشامخت من ريّ فكرك النابع. تبا لأشواكها تقض المضاجع، مناها أن تكوني أسيرة ونهبة للطامع؛ لترتشي من فيئك وتنتشي بتخمة المنافع، وتقتنص عرائس البيان والبدائع، فرائس تستبيح حماها في أحلك المواقع. عذرًا سيدتي الفصحى: فقد ضاق بي المقام, جئتك نادما أجر أذيال الوهام، طويت الدروب، شققت الزحام, حتى غفوت بين أشلاء الركام, في غمرة صدقت معسول الكلام, فتخدرت عروبتي وجراحها تقعرت دون التئام، فكم وكم ناديتني برأفة بلهفة برفة الهيام ونسجت من أحشائك برد التحية والسلام، وعزفتِ الشوق هديلا أبويا ردده الحمام. فكم وكم عققتك! وكم رميتك بالسهام! مازلت يا سيدتي أبية حصيفة عفيفة القوام. شجونك تسابقت غيومه تهاطلت دموعه بنور الابتسام. أماه دثريني فرياح البعد أججت السقام، أماه فداك روحي يا لغة الكاتبين الكرام، لك العتبى يا جنة الخواص والعوام. أماه صافحت نخيل فصاحتك فتسامى في وئام، وازدهت سعفاته تثمر الحلم ربيعًا تنثر العطف ورودًا والأماني في ارتسام. عهدًا سيدتي الفصحى: عهدًا يستنهض وجداني ويبعث رقوده؛ لينسج من مهجتك حدوده، من نهر بلاغتك يبتغي صعوده، يستقي نضارتك ليشحذ وقوده، يتأمل خلودك ليسطر وجوده, يتفيأ حنانك ليستثمر وعوده, عهدًا يبحر في أعماقك ليرسخ صموده, يقطف بديعك مستعذبا وروده، عهدًا يستجمع قواه ويستنفر حشوده؛ ليجلو الباطل ويدحض جنوده؛ فيستقيم لسانه محطمًا قيوده. عهدًا سيدتي الفصحى: تنسجه عروبتي شغافا، يلتف حول غصونك التفافا، من مكنوناتك يجتني قطافا، مفاخرك تأسر اللغات خفافا، وتفر اللكنات نادبة حظها سفافا، وسحرك على المدى يترجم العفافا، تسطع نجمات علومك لهافا؛ لتشق طريق المعالي وتشد القلوب انعطافا، فيستفيق الطير في بكوره اصطفافا، ورشده منصرف عن مزلق العجمة انصرافا، يبصر جودك أصالة لا مضافا, يرعى كيانك مسترشدا أسلافا، آماله تحلقت من حولك ضفافا، أعداؤك تقوقعوا في تيهم ضعافا، صيحاتهم تكشفت أجوافا. سيدتي الفصحى فلتهنئي مع الهدى مطافا، ولتنعمي بوعينا ولتزدهي أعطافا, سيدتي رحيقك صيرنا بين الورى أشرافا.
مشاركة :