هذا المقال هو جزء من ورقتي النقدية التي ألقيتها في ملتقى الشارقة الخامس عشر للسرد الذي انعقد في العاصمة المغربية الرباط في الفترة من 17 إلى 19 سبتمبر 2018، وقد كان الملتقى عن الرواية العربية الجديدة. وعنوان مقاربتي النقدية هو «الرواية العربية الجديدة وإشكاليات السرد التاريخيّ الصوفيّ». وفي رواية «حارس العشق الإلهيّ، التاريخ السريّ لمولانا جلال الدين الروميّ» للروائي المصريّ أدهم العبوديّ ثمَّة استلهام تناصيّ واضح مع رواية «قواعد العشق الأربعون» للروائية التركيّة إليف شافاق، وهذا الاستلهام التناصيّ يبدو حتى في بعض عناوين الفصول، وخاصة في أسماء الشخصيات المحورية الكبرى مثل جلال الدين الروميّ وشمس الدين التبريزيّ وكيرا. ونلاحظ أن إليف شافاق قسَّمت روايتها «قواعد العشق الأربعون» إلى استهلال ثم إلى خمسة أجزاء استوحتها من كتاب «قواعد العشق الأربعون» لشمس الدين التبريزيّ، وتدرجتْ في القواعد من القاعدة الأولى إلى القاعدة الأربعين من العشق. ولذلك فإنَّ الخطاب السرديَّ الخاص برواية «الكفر الحلو» المضمّنة داخل خطاب الرواية يحتوي على القواعد الأربعين التي صاغها شمس الدين التبريزيّ للعشق الإلهيّ. وتختزل القاعدة الأربعون هذا العشق ثم قالت ببطء: تقول القاعدة الأربعون: لا قيمة للحياة من دون عشق. لا تسأل نفسك ما نوع العشق الذي تريده، روحي أم مادي، إلهي أم دنيوي، غربيّ أم شرقيّ.. فالانقسامات لا تؤدي إلا إلى مزيد من الانقسامات. ليس للعشق تسميات ولا علامات ولا تعريف. إنَّه كما هو، نقي وبسيط. العشق ماء الحياة. والعشيق هو روح من النار! صبح الكون مختلفًا عندما تعشق النار الماء. انطلق أدهم العبوديّ في حبكته السردية الخاصة بالتاريخ السريّ لمولانا جلال الدين الروميّ من ثلاثة أقسام كبرى هي المفترق، العثور، والعدم. ويتحول القسم الأخير عنده(العدم) إلى اندماج الشخصيتين المحوريتين في خطابه الروائي ويصبح عنوان هذا القسم الأخير«مولانا شمس الدين الروميّ»، وهو اسم يدمج القطبين الصوفيين الكبيرين شمس الدين التبريزيّ وجلال الدين الروميّ ليصبحا اسمًا واحدًا بعد وصولهما إلى الاندماج الأكبر(العشق الإلهي = وحدة الوجود)، وبعد أن كانا اثنين أصبحا واحدًا. يقول جلال الدين الروميّ في نهاية هذه الرواية: «ذُبْ لا تهمك الأسماء، في هذه اللحظة؛ في هذه اللحظة بالذات، نحن خارج حدود الوعي، إنَّ التوحّد هو سر العشق الإلهي، هو الحقيقة المطلقة، الحقيقة التي ليس قبلها ولا بعدها حقائق، أنا وأنت «شمس» و«جلال» أو «جلال» و«شمس» أو روح العشق، أو كلّ الأسماء مُدمجة، لا يهمك، في حلم قديم رأيتنا نحرق كلّ شيء، نحرق أنفسنا، اليوم علينا أن نعيد الزمن قليلا، كي لا يحترق جوهر الحقيقة، هل تراك؟ لا تندهش، عدد غير محدود من النسخ يحوم حولك، إنّها ليست أطيافًا، إنّها أنت، بتفاصيلك كأنّ العالم بأسره تحوّل إلى دائرة من المرايا، واجه انعكاساتك، كي تستطيع ضبط ميزان العالم من جديد، أمسك الشعلة، احرق كلّ الكتب أولاً، ودع الحروف تتطاير، كلما اشتعلت الكتب، تطايرت الحروف، الحقيقة الوحيدة الأزلية سوف تتبقى في كتاب أوحد، هو الذي سينجو من النار.1 ويقول جلال الدين الروميّ في موضع آخر من الفصل الأخير(العدم) مخاطبًا شمس الدين التبريزي: «أغمض عينيك فقط، واجل الضوء، وقد تجد عرشًا منبسطًا في انتظارك... هيا اجلس عليه... اجلس على عرشك. تلك قواعد العشق الأربعون، مجرد حروف، إن أحرقتها، تطايرت هي الأخرى، وسيتبقى كتاب أوحد، صدقني، كتاب أوحد يارفيقي. هل تعرف اسمه؟». كان أدهم العبوديّ في روايته «حارس العشق الإلهيّ، التاريخ السريّ لمولانا جلال الدين الروميّ» معنيًا كثيرًا بتلك الإحالات الكثيرة التي شكّلت العوالم المرجعيّة التاريخيّة لخطابه الروائيّ، وقد كان حريصًا على خلق ذلك الامتزاج والتداخل والانسجام بين عوالمه المرجعيّة وعوالمه المتخيّلة؛ أي أنَّ خطاب السرد التاريخيّ لديه لم يتعارض مطلقًا مع ذلك الخطاب الذي كان معنيا بإدراجه، متمثّلاً في نصوص مرجعيّة عائدة إلى مصنفات تاريخيّة (تاريخ الإسلام) للذهبيّ و(الكامل في التاريخ) لابن الأثير وأخرى صوفيّة أو متعلقة بالتأريخ الصوفيّ (قواعد العشق الأربعون) لشمس الدين التبريزيّ (المثنوي) و(الرباعيات) لمولانا جلال الدين الروميّ. في رواية «قواعد العشق الأربعون» للتركيّة إليف شافاق لدينا خطابان سرديان، أحدهما معاصر والآخر قديم يعود إلى الحقبة التاريخيّة الإشكالية جدًا في العالم الإسلاميّ (زمن جلال الدين الرومي وشمس الدين التبريزي= الزمن التاريخيّ (أزمنة الاندحار والهزيمة والانكسار) في مقابل زمن انكسار وتشتت خاص ببطلة الرواية الناقدة الأدبيّة إيلا، وكما يلتقي شمس الدين التبريزيّ بجلال الدين الروميّ فيكوِّنان بانصهارهما معا وحدة الوجود والعشق الإلهيّ وامتزاج الماء بالنار رغم تنافر طبعيهما واختلاف شخصيتهما تلتقي إيلا بالروائيّ الهولنديّ المتصوِّف عزيز ويقودها إلى الوصول إلى مرتبة العشق في أقصى درجاته معه وعندما يموت تكون قد عثرتْ على المعنى الحقيقي لوجودها الكونيّ. فالنهاية هنا ليست نهاية الأشياء وإنَّما هي البداية المؤسسة والواعدة لانطلاقة مليئة بالشغف هي تعرف المريد إلى حقيقته وإلى ارتباطه بأشياء الكون كلّه في انسجام كونيّ مطلق تعب عنه رقصة الدراويش المولوية(السيما) المنسوبة إلى جلال الدين الروميّ. لاتشتمل رواية «حارس العشق الإلهيّ، التاريخ السريّ لمولانا جلال الدين الروميّ» على خطابين سرديين متوازيين، وإنَّما تشتمل على ثلاثة فصول متواشجة سرديًا قائمة أساسًا على استنطاق شخصيات الرواية من خلال التركيز على التبئير السردي المتعدّد في لغة بصرية تحتفي بالمكان، وفي معجم صوفيّ على درجة عالية من التركيز والتكثيف الدلاليّ رغم بطء السرد واحتفائه بالتفاصيل الصغيرة. وسنجد شخصيات الرواية جميعها تتحدث عن سرد «ذاتها» بواسطة ضمير المتكلم. وفي كثير من الأحيان يتدخل الصوت السرديّ للروائيّ متوسلا بعبارة «قال الرواي»، وهي العبارة الني نجدها في السير الشعبّية العربيّة، كما يتداخل السرد بالمشهدية المسرحية، وخاصة في الفصل الذي عقده أدهم العبوديّ لسرد ماحدث من مقتل شمس الدين التبريزيّ. قال الراوي: في المشهد، كالعادة، حصيرة أزلية تحوم جانحة فوق رؤوس الناس بالأعلى، في المشهد أفق وسماء وغيم، تثب من مجاهل أحشائهم البيوت كأجنة لم تزل معلقة بمشيماتها في الأرحام، تنسلخ البيوت بانحدار النظر ملفوظة إلى قيعان الشوارع، لكنها مضبّبة، يغلف وجوهها السحاب الرمادي، الأدق، يشوّهها(...) المشهد ينحسر، شيًئا فشيًئا ينحسر، يتضاءل داخل الأعين، لتبدو وجوه البيوت كأنَّها ملامح رجل عجوز محدّبة، أهلكها الزمن، إذ لم يترك فوقها غير التجاعيد المتفسّخة، وغبار التواريخ المزمنة، والخيبات المتتالية، واليأس، والرضوخ والذل والهوان(...) في المشهد، إذًا، رجل شبه عار، وشجرة يابسة وطريق مزدحمة بالمتفرجين. إنَّ هذه المسردية المشهدية التي أراد بها العبوديّ إخضاع شخصية شمس الدين التبريزيّ لوجهات نظر سردية متعدِّدة شبيهة كثيرًا بمشهد صلب الحلّاج ثم محاكمته ثم مجيء صديقه الشبليّ الذي عاتبه على خلعه خرقة الصوفية وإباحته خطابها لعامة الناس. يصدر خطاب إليف شافاق الروائيّ في منظومته الفكرية في روايتها «قواعد العشق الأربعون» عن خطاب كوني شمولي يكون خطاب العشق فيه مرادفًا للتسامح والقبول بالآخر ودمج التنوعات البشرية وصهرها في بوتقة واحدة لاتعترف بالتصنيفات والحدود مهما كانت تسمياتها. ولذلك فإنَّ شافاق في هذه الرواية قامت بانتقاء لافت لشخصيات روايتها من البطلة إيلا اليهوديّة الأمريكيَّة التي تعيش في مجتمع يهوديّ منغلق ومتعصب، وسوف تغادر هذه الدوائر الضيقة عندما تندمج بالعشق مع عزيز الهولنديّ المسيحيّ الذي تحوّل إلى الإسلام واعتنق التصوّف في رحلته الفكرية للبحث عن الحقيقة. ويصدر خطاب أدهم العبوديّ في روايته «حارس العشق الإلهيّ، التاريخ السريّ لمولانا جلال الدين الروميّ» عن هذه المنطلقات الروحانيّة نفسها بحثًا عن خطاب عشق كونيّ تذوب فيه الفواصل والحواجز والحدود التي فرّقت بين بني البشر، ولذلك فإنَّ (كيرا)المسيحيّة ستكون هي زوجة جلال الدين الروميّ المسلم المتصوِّف. وبسبب هذا الخطاب الكونيّ لكلتا الروايتين سنجدهما تركزان في حبكتهما السردية على انتقاء اللحظات المفصلية التاريخيّة الشائكة في التاريخ الإسلاميّ، ففي مقابل خطاب الحرب والكراهية والتدمير والإبادة الذي تشيعه جموع التتار والصليبيين والحشاشين هناك خطاب العزلة الروحانيّة الصوفيّة التي تعزّز خطاب الحب والعشق الإلهيّ. 1 حارس العشق الإلهي، التاريخ السري لمولانا جلال الدين الروميّ، ط3، القاهرة، المصريّ للنشر والتوزيع،2017، ص 387. أستاذة السرديات والنقد الأدبي الحديث المساعد، كلية الآداب، جامعة البحرين. dheyaalkaabi@gmail.com
مشاركة :