بدأت رحلة "كيميا" في الرواية التي تحمل الاسم نفسه والصادرة حديثاً عن دار "الشروق" في القاهرة، بمدينة قونية في تركيا، لوضع كتاب حول جلال الدين الرومي في مئويته الثامنة لصالح مؤسسة "ارتياد الآفاق". وفي الواقع كان مؤلف الرواية وليد علاء الدين٬ واحداً من ثلاثة كتّاب عرب أوفدهتم المؤسسة ذاتها إلى "قونية" للغرض نفسه. وعبر 224 صفحة يفكك الراوي أسطورة الرومي٬ يرتاد أماكن مظلمة في التاريخ المسكوت عنه٬ يقدم الجانب الآخر من القصة/ الأسطورة. ويطرح التساؤلات حول الفتاة اليتيمة "كيميا" التي تولي الرومي رعايتها وتربت في بيته٬ لكنه يقدمها لشمس الدين التبريزي ٬رغم ولع إبنه علاء الدين بها. حول الرواية وما تقدمه كان هذا اللقاء مع مؤلفها الشاعر والكاتب المسرحي المصري وليد علاء الدين، علماً أنه أصدر من قبل رواية واحدة هي "ابن القبطية". *كيف جاءت فكرة هذه الرواية؟ - لم أكن أعرف الرومي سوى عبر مختارات رائجة من أشعاره، وبعض القصص المحكية حوله وحول شمس الدين التبريزي، ومعرفة عامة برقصة المولوية وانعكاساتها في رقصة التنورة المصرية. حالة معرفة فلكلورية. ولكن أمام مسؤولية العمل الصحافي وضعت خطة قراءة مكثفة للإحاطة بتجربة الرومي شاعراً، والمرحلة التاريخية التي عاش فيها، وأبرز الكتابات التي تناولته من زوايا نظر مختلفة. خلال القراءة بدا وكأن روح "كيميا" كانت في انتظاري لتتشبث بي من ذلك المكان الذي تهيم فيه أرواح المظلومين. وانفتح أمامي عالم مختلف رأيت فيه الرومي وشمس الدين بعين مختلفة عن عيون العشاق المتيمين أو الأعداء الأيديولوجيين. أظنها عين الإنسانية التي ترى في كل إنسان قيمة أغلى وأهم من كل ما يظن الناس أنه مقدس. * من هي "كيميا" وما علاقتها بجلال الدين الرومي وشمس التبريزي؟ -"كيميا" طفلة عاشت في "بلخ"، وهي مسقط رأس الرومي قبل أن يرحل طفلاً مع أسرته ليستقر في قونية. وفق المصادر التاريخية القليلة، تربت كيميا في بيت الرومي مع زوجته الجديدة بعد رحيل الأولى، ومع أبنائه، ومنهم علاء الدين، الذي توجد إشارات إلى عاطفة تناسب عمريهما نشأت بينهما. ولكن الرومي زوَّجها بشمس الدين التبريزي الدرويش الجوال الذي يكبرها بحوالي 50 سنة، من أجل استبقائه في بيته. وبعد فترة قصيرة مرضت كيميا ورحلت عن العالم، ولم تنل روحها المقهورة أي مظهر من مظاهر التكريم؛ فلم يرثها الرومي ببيت واحد من آلاف الأبيات التي كتبها، ولم يرد ذكرها ضمن آلاف القصص التي تدفقت على لسان شمس وجلال تتحدث عن العشق والحب والشفقة والرحمة والإنسانية. وحين زرت قونية لم أجد لها شاهد قبر لهذه الفتاة، ولا لعلاء الدين، لأنه بالنسبة إلى والده كان متمرداً. *لماذا رفضتَ روايتي التركية إليف شافاق٬ والإنكليزية موريل مفروي حول "كيميا" ومصيرها؟ -لا توجد رواية تاريخية محددة حول مصير كيميا، كما أن تاريخ الرومي كتبه مريدوه، فهو في رأيي تاريخ تقديس وصناعة أسطورة، تبدو فيه الأشخاص جنوداً في خدمة البطل الأسطوري، وتتراجع كل القيم لصالح البطل، بل يبدو وكأن كل شيء في الوجود من طبيعة وأحداث كان مسخراً في تلك اللحظة لخدمته؛ كأن يصبح غزو المغول لمدينة بلخ مثلاً "انتقاماً إلهياً لنسل الرومي الشريف"، حسب رواية الرومي نفسه، ثم روايات ولده سلطان بعد ذلك. لا يمكن اعتبار هذه الروايات تاريخاً، بل هي حملة إعلامية وإعلانية لبناء أسطورة، لا يمكن التعامل معها إلا بريبة وشك. كان لزاماً عليّ أن أقف في صف مَن تم تهميشهما داخل هذه اللعبة، وهما كيميا وعلاء الدين. أما موفروي في روايتها "بنت مولانا" وشافاق بعد ذلك في روايتها "قواعد العشق الأربعون" فقد وقعتا - ببساطة أتعجب لها- تحت سيطرة ماكينة صنع الأساطير تلك، وتبنّت كل منهما رؤية صانعي الأسطورة ووضعتا كيميا هذه الطفلة الهشة في زاوية العاشقة التي تولّع قلبُها عشقاً بدرويش جوَّال غريب الأطوار لا يصلح إلا أن يكون جدّها. وهو ما لم أقبله، فكان عليّ أن أعيد صياغة الحكاية عكس عقارب الأسطورة، ولصالح الروح الإنسانية البسيطة التي رحلت مقهورة ولم يسمع أنينها أحد. *ما الخطر الذي يمثله الحديث عن كيميا ومحاولة قص حكايتها كاملة؟ -إذا كان ثمة خطر فهو ما أسميه خطر وجهة النظر الأخرى، خطر إضافة احتمال جديد إلى منظومة ارتاح الناس إليها ورفعوا رايات مصالحهم داخلها، أو أسسوا أركان إيمانهم عليها، أو على الأقل رضوا عنها وارتضوها ومضوا في حياتهم. إنه هذا الانزعاج الذي يسببه دعاة النبش العقلي في قناعات أصحاب اليقين المغلق، إنه خطر الصوت المختلف. خطر الدعوة إلى إعادة القراءة وسط من اعتادوا تبني قراءات الآخرين وتكرار خلاصات لم يبذلوا جهداً في الوصول إليها. ـ* كيف استغل التبريزي الرومي لتحقيق مكاسب شخصية، بحسب ما تذهب إليه روايتك؟ لا يمكن أن نتحدث عن الأمر باعتباره تاريخاً، ولكنها وجهة النظر الأخرى التي لم تنتشر، كما قلنا إنه الاحتمال المسكوت عنه. تاريخياً عاش الرومي معيشة الأمراء، ولم يكن متصوفاً فقيراً. تلك الفترة من التاريخ كانت زمن الخوف عن جدارة، فقد عاش الناس في خوف عظيم، التتار على الأبواب، الصراعات بين الأمراء والحكام أمر يومي، المؤامرات والوشايات والقتل المجاني سمة رئيسة، الأثرياء يخشون على ثرواتهم، وأصحاب السلطة يخشون على سلطاتهم، والشعوب فقيرة تحتاج إلى من يقودها. حالة مثالية لانتشار الحركات الدينية، لذا فقد شاع التصوف، بداية من الصوفية السنية المغالية، وصولاً إلى تصوف المعجزات وأصحاب اللعب بالثعابين والنار. كلهم يتنافسون على الأتباع والمريدين لزيادة رقعة سلطتهم، وبالتالي حظوتهم لدى الأمراء والحكام. لم يكن الرومي مختلفاً عن هؤلاء، وهناك كتابات كثيرة لا تقل في جديتها عن الروايات الشائعة، تحدثت عن علاقة الرومي بالسلطة منذ أن كان فقيهاً حنفياً، وبعد أن ارتدى عباءة الصوفية. وروايات أخرى موثقة عن الهدايا والعطايا التي كان يحصل عليها من الأمراء والأميرات والحكام، وروايات عن أن شمس الدين التبريزي كان يجلس بباب الرومي ليتقاضى من الزوار أجر الدخول أو التحدث أو الاستشفاء بحديث أو لمسات الرومي. هي ممارسات لم ينكرها أحد، ولكنهم يضفون عليها مسحتهم التي يحق لنا أن نضيف إليها قراءتنا واحتمالنا، بخاصة عندما نلمح روحاً بريئة تدفع الثمن، مثلما تدفع أرواح بريئة الثمن نفسه حتى لحظتنا هذه وسط ضجيج ألعاب معقّدة باسم عقائد وفلسفات ومصالح. *ألم تخش في تفكيك عالم الرومي والتبريزي من ردة فعل المتلقي، بخاصة في ظل ما تشير إليه أيضاً من أن مسحة الصوفية صارت موضة العصر؟ -أراهن دائماً على روح القارئ وقدرته على التفرقة بين الزيف والحقيقة. مسؤوليتي تنحصر في سرد الحكاية الموازية، طرح الاحتمال الغائب أو المغيّب. وكقاعدة أؤمن بها: لا يوجد ما يخشاه من يدافع عن الإنسانية المطلقة، متجرداً من كل ما عداها؛ لأنه - للعجب- الإنسانية هي الصفة الوحيدة المشتركة بين كل البشر بعد أن نخلع عنهم كل الأردية العقائدية والفكرية. *كيف استدعيت روح علاء الدين الابن الأصغر للرومي٬ أم أنها هي من سعت إليك؟ -روح علاء الدين كانت تنتظر وصولي إلى قونية، والحلم الذي صدّرت به الرواية والذي يبدو مرعباً، حدث بالفعل في ليلتي الأولى في الفندق، نتيجة لانشغالي الكبير بكيميا وبحكايتها وبعلاء الدين الذي وصفوه بالمتمرد حيناً وبالمتشدد أحياناً، واتهموه بقتل شمس الدين التبريزي، بينما لم أر فيه سوى إنسان رفض الانسياق وراء القطيع، ودافع حتى النهاية عن حبه. *حدثنا عن وضع المرأة في عالم الرومي وهل مارست رقص المولوية وكانت لها مجالس خاصة بها؟ -المولوية كطريقة تأسست بعد رحيل الرومي، الأمر يشبه استثمار جيد لنجاح الأب قام به سلطان، ابن الرومي الأكبر. حديثي منحصر عن فترة حياة الرومي؛ ثمة إشارات إلى أنه كان يعقد حضرات نسائية بدعوات من زوجات الأمراء والحكام في مجالسهن وبطلب منهن. وهو خبر يمكن أن نقرأ منه موقع النساء من المولوية كممارسة، ولكنه لا يصلح لمعرفة موقف المولوية الفكري من المرأة، إذ يقتصر على علاقته بطبقة الأثرياء والحكام. في المقابل نجد بعض الباحثين يفسرون الظلم الواقع على كيميا من الرومي بأنها كانت يتيمة! ويقول إن نظرة التصوف لليتيم بها بعض القسوة، شيء يشبه قاعدة "المحروم من الله" في الفقه، والتي تحرم إنساناً من حقه بدعوى أن الله هو مَن حرمه. *ما الفارق بين صورة الرومي الذهنية لدي مريديه وبين حقيقته التاريخية؟ -ليس هدف الرواية رسم صورة مختلفة للرومي، إنما الدعوة لبناء صورة عنه من خلال القراءة، وليس تبني صورة مجتزأة رسمها آخرون، أياً كانت انتماءات هؤلاء الآخرين. الرواية كذلك دعوة لعدم التنازل عن معيار الحكم الأساسي في كل شيء، وهو أن قيمة روح إنسان أعلى منزلة وشأناً من كل أفكار وفلسفات الدنيا. فما قيمة أي فكرة إن لم تكن كرامة الإنسان وراحة روحه هدفها؟ *أشرت إلى وجود حروب بين أصحاب الطرق الصوفية للفوز بأكبر نصيب من ذهبها وأموالها، هلا وضحت لنا الأمر؟ -في هذا الزمن لم تكن حياة الإنسان تعني شيئاً؛ المغول على الأبواب، الحكام مذعورون والعوام يقضون كل يوم من أيامهم كأنه الأخير. ينتظر الناس قدوم الموت بين لحظة وأخرى. وفي أرض الخوف تتعاظم الآلهة ويتعاظم من يتحدثون بأسمائها. المتحدثون باسم السماء يَعدون بحماية لا يمكن اختبارها، وطمأنينة قابلة دائمًا للتجديد والمراجعة حسب الظروف. تنافست الطرق الصوفية في استقطاب المريدين، بالترهيب والترغيب. تغولت "التكية الكازرونية" بطريقتها السنية المغالية التي نبتت من تعاليم المذهب الحنبلي. وانتشرت "الأكبرية" التي أسسها محيي الدين بن عربي، والتي صارت لفترة المنافس الأكبر لطريقة المولوية -التي تحولت بعد رحيل الرومي إلى طريقة على يد ابنه سلطان والأتباع ممن حرصوا على استمرار الفكرة أو الفائدة- كان هناك كذلك أهل "الفتوة الرفاعية" الذين شغلوا الناس بألاعيبهم وعروضهم بالنار وبالثعابين. *هل فكرت في تتبع سيرة "كيميا" لتستكمل ما بدأته؟ -كيميا رمز، وقد نجحت - أو أرجو ذلك- في وضع شاهد افتراضي لقبرها الغائب، وأن أصنع ثقباً في الجدار الغليظ يسمح لروحها بالتحليق، مجرد فراشة جميلة، ولكنني أراهن على "أثر الفراشة".
مشاركة :