حتى منتصف شهر يناير 2019، يحتفي متحف “لورانجوري” بباريس بالفنانة البرتغالية باولا ريغو المقيمة بلندن، في معرض تقدم فيه لوحات هي عبارة عن قراءة مخصوصة لبعض الخرافات الشعبية، البرتغالية والأوروبية عموما، ورؤية نقدية للمجتمعات الغربية. “الخرافات المرعبة لباولا ريغو” هو عنوان المعرض الذي يقام في متحف “لورانجوري” بباريس لهذه الفنانة التشكيلية البرتغالية، التي رأت النور عام 1935 في لشبونة، وتعلمت أصول الفن في معهد سانت يوليان بمدينة كركافيلوس، قبل أن تسافر إلى لندن عام 1951 لتلتحق بمعهد سلاد للفنون، حيث تعرفت على الرسام فيكتور ويلينغ الذي سيقاسمها حياتها ما بين 1953 و1963. ومنذ انفصالها عن زوجها حتى عام 1975 ظلت تتنقل بين البرتغال ولندن، قبل أن تستقر في عاصمة الضباب، هربا من الجو الخانق والعزلة الثقافية اللذين فرضهما نظام الدكتاتور الأسبق سالازار، واستطاعت خلال إقامتها في لندن أن تشغل منصب مدرّسة فنون جميلة بالمعهد الذي كان له الفضل في نضج تجربتها وأن تتعاقد مع “الناشيونال غاليري” لعرض أعمالها. وكانت فرصة أمامها كي تخالط أعلاما من الوسط الفني أمثال لوسيان فرويد، وفرنسيس بيكون، وفرانك أويراخ، ودفيد هوكني. وبمرور الأعوام، تحولت تلك الرسامة الماهرة والمزينة البارعة إلى راوية خرافات تتولى إخراجها في لوحات ضخمة، وقد استفادت من سرديتها الخاصة، المكوّنة من أب محبّ دائم الحضور في أعمالها لا سيما في لوحة الرجل الوسادة، وأم صارمة تحكم بأحكامها، وكذلك من قراءاتها المتنوعة حينما كانت شابة لكتب مثل “الكوميديا الإلهية” لدانتي التي أنجز رسومها التصويرية الفرنسي غوستاف دوري، وروايات الكونتيسة دو سيغور، وتاريخ الفنون بأعلامه البارزين أمثال غويا، وغروز، ودي كيريكو إلى جانب تأثير الديانة، ونسويتها المتأصلة بغير دوغمائية، وغرائزها الإيروسية أيضا. وتتبدى في لوحات باولا ريغو مؤثرات أدبية كثيرة، ولكن ما يسكن آثارها ميل واضح نحو الفنتازي، والسريالي، وكلاهما فتح لها آفاقا واسعة، جعلها في منأى ممّا يمكن تسميته بالواقعية الفجة، فقد دأبت، على غرار ابن بلدها السينمائي مانويل دو أوليفيرا، على مزج رموز أدبية أمثال أليس في بلاد العجائب، وبيتر بان، وجان آير، ويبنوكيو، والثلجة البيضاء، بعناصر سير ذاتية وأخرى واقعية، تستخلصها من عالم اليوم برهاناته الاجتماعية والسياسية، فتبدو لوحاتها مثل خرافات شديدة القسوة، تعرض من خلالها وضع المرأة في مشاهد غريبة، منافية للرموز الاجتماعية المعهودة. وعلى غرار غوغارت وغويا وجورج غروز، تضع ريغو الأعراف القائمة موضع مساءلة، وتركز بأسلوب ساخر على ملامح المجتمع البورجوازي الذي تمثله الأسرة والدين والدولة. استطاعت باولا ريغو أن تخلق عالما غريبا، قاسيا، مسكونا بمخلوقات أشبه بالأشباح دون أن تنكب عن رسم الحرب والوحشية والحيوانية بلوحات تعتمد البستال في عمومها ولئن كان من بين تلك المؤثرات ما هو مستوحى من أعمال فناني القرن التاسع عشر، أمثال هونوري دوميي (1808-1879) وإدغار دوغا، وغويا، وجورجو دي كيريكو، وأوديل رودون، وكذلك من أعمال فنان آخر يهوى الاستئناس بعالم الحيوانات هو بنجامان رابيي (1869-1939)، فإن ثمة أيضا حضورا لصور وحوش ومسوخ تذكر بعوالم الروائي هوارد فيليبس لافكرافت. ولوحاتها في معظمها تبدو أشبه بمشاهد تجسد كوابيس، كما هو الشأن في لوحة “كمين” (1987) ذات الصبغة السريالية، و”الرقصة” (1988) التي يتبدّى فيها أزواج من ذكر وأنثى تحت ضوء قمر شاحب يتعانقون في صمت تام لا يربكه أي شيء، و”حرب” (2003) المستوحاة من صورة شمسية أخذت لطفلة أثناء حرب الخليج الثانية. وتستعين ريغو في إنجاز لوحاتها بدمى ومشخصات ومنحوتات من الورق المدعوك لأشخاص أو حيوانات تصنعها في مرسمها أو تقنّعها لتخلق لوحات ضخمة يمتزج فيها الواقع بالخيال والأحلام بالكوابيس، وتحتوي على معانٍ استعارية أو أليغورية. والحيوانات لديها هي وسيلة لرسم ما يتبدى في المجتمع من وضعيات متناقضة، كالهيمنة والخضوع، العنف والهشاشة، التعاطف والنقمة، بطريقة تذكر بالحيوان في خرافات لافونتين. كذلك المرأة، فهي تبدو في كل صورها، ملاكا أو شيطانا، عاشقة أو ناقمة، خاضعة أو مهيمنة، معشوقة أو مخدوعة، بطلة أم منحرفة. وبُني المعرض على مسار كرونولوجي وثيمي، من الثمانينات بلوحة “ابنة الشرطي” (1987) إلى لوحة “بلزاك ستوري” (2011)، عبر تسع محطات تسمح للزائر بمعاينة التحولات الشخصية والفنية التي شهدتها الفنانة، والوقوف على المؤثرات التي جللت تجربتها في كل مرحلة، فيقتفي مسارا غير مسبوق في عالم الحلم، وهو يواجه باستمرار عالم الظلمات المحفوف بالعجيب والغريب، توهم كائناته بأنها سوف تلقي به في مهاو مخيفة، ولكن ذلك المسار لا يقتصر على الرعب وحده، إذ ثمة ما يعكس ميلا إلى الفنتازيا والمباغتة. لقد استطاعت باولا ريغو أن تخلق عالما غريبا، قاسيا، مسكونا بمخلوقات لابدة في الظل، أشبه بالأشباح، دون أن تنكب عن رسم الحرب والوحشية والحيوانية بلوحات تعتمد البستال في عمومها، ولكنه بستال ذو لمسات مزوقة تتميز بالقوة والتعبيرية، وآثارها في الجملة تصويرية سردية، واقعية حينا وفنتازية حينا آخر، لا تخلو من إرباك.
مشاركة :