احتفلت فرنسا تحت قوس النصر بالذكرى المئوية لانتهاء الحرب العالمية الأولى، بحضور الرئيس الأميركي دونالد ترامب والرئيس الروسي فلاديمير بوتين والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل والعديد من قادة الدول الذين استمعوا إلى الرئيس إيمانويل ماكرون وهو يلقي بين أيديهم ذاكرة المأساة وما ألحقته بعالمنا من عنف مازال يتناوش الإنسانية بالأحزان والانقسامات وردات الفعل التي أنتجت لنا الحرب العالمية الثانية والحروب الإقليمية والحرب الباردة. تحت رذاذ المطر وفي أجواء تقترب من مفاهيم الأسرة الكونية، أصغت العائلة إلى موسيقى تمجّد الحياة والحب والأمل لسيباستيان باخ، ثم إلى عزف انفرادي لصوت التشيللو. بعد مئة عام من الحرب تبدو الأسباب والتعصب للتفاصيل القومية مثار تساؤل يتعدى أرقام الضحايا والخسائر إلى مبررات الاستمرار لاستنساخ التجارب مع تعاقب الأجيال والزعامات، كأن التاريخ، ومنه القريب، مجموعة وثائق لمعاهدات واتفاقيات في خدمة مستجدات الحروب الجديدة. المنتصرون والمهزومون في تلك الحرب ترجموا فكرة طالما أصغيت إليها “من نحن بعد مئة عام؟” عندما تصافح ماكرون مع ميركل أكثر من مرة، رغم الانتقادات من اليمين المتطرف في ألمانيا؛ وهي انتقادات وصفت الحضور الألماني بالمحاباة لإعادة كتابة التاريخ كما يراه المنتصر، والمقصود فرنسا. الرئيس الروسي فلاديمير بوتين اختتم مصافحته للرئيس الأميركي دونالد ترامب برفع إشارة الإبهام على طريقة اللايكات في تويتر، رغم أنه التقط رغبة ماكرون في الدعوة لتأسيس جيش أوروبي، واصفا إياها بالخطوة الإيجابية لتعزيز تعددية الأقطاب. الرئيس ترامب استبق حضوره بوصف دعوة ماكرون لتأسيس جيش أوروبي، بالمهينة؛ لذلك استقبال الرئيس الفرنسي للرئيس ترامب كان حافلا بلغة التقارب الجسدي تعبيرا عن المودة والحفاوة؛ لكن الحضور الأميركي والروسي لم يمنع ماكرون من انتقاد الذين يثيرون النوازع القومية باعتبارها خيانة للقيم الأخلاقية العليا. بعد مئة عام على الهدنة التي أفضت إلى مؤتمر باريس للسلام سنة 1919 الذي قررت فيه الدول المنتصرة إنشاء عصبة الأمم والتوقيع على عدد من المعاهدات من بينها معاهدة فرساي الخاصة مع ألمانيا وتقسيم أملاك الدولة العثمانية، يعيد عالم اليوم إنتاج الصراعات القديمة وسفك الدماء على إيقاع تناقضات النفس البشرية بما لها من صلة بالسياسات العامة للدول في تعاملها مع شعوبها أو مع شعوب العالم والحكومات التي تمثلها، وفق منظور القوة والتكتل في محاور تبدو أحيانا صورة طبق الأصل لتحالفات الحروب العالمية. كان للموسيقى دور بالغ في الاحتفال، كقوة ناعمة وداعمة لخطاب ماكرون الذي يرتقي إلى مستوى التشبث بالتقدم في مجال العلوم والتكنولوجيا والتواصل والنقل والفنون والثقافة. النقد موجه إلى السياسة وتراجعها عن استيعاب القفزات الطموحة، ما دفعها إلى ممارسة دور الحواجز بصدفة مزاج سياسي يقرر نقطة انطلاقه عند كل منعطف حاد تحصل فيه الانقلابات أو الانتخابات. قبل أيام أقامت الفرقة السيمفونية العراقية حفلا في الموصل، وقبلها كان تشيللو الفنان كريم كنعان وصفي، على أنقاض الخراب في الموصل القديمة، يرفع عن كاهل المدينة التاريخية ما تناثر عليها من خرافات الإرهاب ومقاصد السياسة على حد سواء. ثمة وصلة موسيقية مشتركة بالروح الإنسانية تتعالى على الانتماءات وصدفة الجغرافيا إلى ما هو خالد في دورة القرون ويبعث على الاطمئنان بعدم زواله في مقاومته البريئة لفواصل الموت الكبرى. لكن السياسة أحيانا تدنس حتى الموسيقى، ففي مايو 2016 وعلى مدرج مدينة تدمر الأثرية في سوريا، قدمت فرقة أوركسترا روسية حفلا موسيقيا من بين منهاجه مقطوعة لباخ على آلة الكمان. استهل الحفل حينها بكلمة للرئيس فلاديمير بوتين عبر دائرة تلفزيونية للترويج لقواته العسكرية في سوريا؛ وكأن الرئيس الروسي يأمل في بعث حضارة تدمر من جديد رغم أن قواته الجوية هدمت المدن وهجرت الملايين وأبقت على أشلاء نظام الأسد فوق كرسي السلطة. الزعيم النازي أدولف هتلر كان متأثرا بموسيقى ريتشارد فاغنر، ويعتبرها النقاد مع كتابات فريدريك نيتشه، الروح والجسد اللذين أقام فيهما هتلر نظامه النازي إيمانا منه بأن فاغنر ونيتشه عنصرا الروح الألمانية بسيادتها وقوتها وعصابها القومي المطلق. لهذا لا نعول كثيرا على خطاب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في احتفالية الذكرى المئوية لانتهاء الحرب العالمية الأولى ولا على الموسيقى الأخاذة تحت قوس النصر النابليوني الذي مرت تحته جيوش التحرير، كما مرت تحته جيوش الغزاة. مظاهر التناقضات في الصراعات المبتكرة للدول الأكثر تأثيرا في السياسة تتجه إلى التنوع واقتفاء الأثر لملء الفراغ في الاقتصاد كما في السلاح، والمقاربة الجديدة تتعاطى مع النزاعات المسلحة والحروب الأهلية بمدى النفوذ والسيطرة على رأس طاولة مفاوضات للسلام وطرح خرائط لطرق بديلة من أجل كسب جولات بمباحثات مصالحة بين أطراف، بعضها على لائحة الإرهاب، والتبرير غالبا هو التعامل مع الأمر الواقع. موسكو أعلنت أنها مستعدة للحوار مع الولايات المتحدة، وأنها لن تكون أولا في مغادرة معاهدة الصواريخ، قد يكون هذا بعض رذاذ الاحتفال المؤثر في باريس وأجواء موسيقى باخ وكلمات ماكرون، وما تبقى من صورة الإخاء بين ماكرون وميركل. لن نتجنى إذا قلنا إنها أجيال تتعثر في ميولها السياسية نحو أحزاب فيها جذوة المأساة التي بالإمكان إيقادها في مقاعد برلمان أو مناصب حكومية أو وسائل إعلام أو لافتات، أو عنف يبدو أنه مسيطر عليه، ثم نكتشف في غفلة من الزمن أننا بصدد جريمة تتعدى التعصب الفردي إلى نظام يتشكل في النفوس، نظام يستبدل الموسيقى والفنون وجمال الحياة بالعنف والإرهاب.
مشاركة :