في المنطق العسكري من المستحيل أن تهزم قبائل متشرذمة تعيش على النهب والظلم أقوى امبراطوريتين على وجه الأرض، إذ إن توحيد هذه القبائل باتجاه هدف واحد كان يعد متعسراً إن لم يكن مستحيلاً، فضلاً عن أن يفكر أحد بأن مجتابي النمار ولابسي الجلود والشعر سيكونون دولة ضاربة وقوة رادعة تدين لها الملوك والجبابرة والأكاسرة ! لكن هذا ما حدث بالفعل، وهذه القبائل المتناحرة المتقاتلة صارت أمة واحدة، وصار جيشها يجوب الأرض فاتحا للبلاد، ولقلوب العباد، ودان الناس لها، ودفع أعداؤها الجزية وهم صاغرون ! في سنوات قليلات من عمر الأمم استطاعت هذه الأمة أن تفرض شريعتها على أكثر بقاع الأرض، طوعا أو كرها . واستطاعت تغيير ماضيها المملوء بالظلم والحيف والجهل إلى حاضر يزهو بالعدالة والرفق والعلم والهدى. ولدت الأمة من جديد، تآلف الأعداء، فأصبحوا بنعمة الله إخوانا. والسبب ظاهر لكل منصف، إن ميلاد هذه الأمة كان بسبب مبعث الحبيب صلوات الله وسلامه عليه. والعجيب أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن عسكريا محنكا، ولا فارسا مغوارا، وليس له في سجل الغزوات، ولا في ساحات القتال وجود قبل أن يبعث ! كان يرعى الغنم في شعاب مكة، فقيرا، ذاق مرارة اليتم، وعانى من الفقر. ولم يكن صلى الله عليه وآله وسلم حليفا لامبراطورية تدعمه معنويًا ولوجستيًا كي يحقق لها أهدافًا، أو ينفذ لها مطالب. بل لقد رماه القريب والبعيد عن قوس واحدة، وتحالفت ضده القبائل، واجتمعت على حربه الأحزاب. نبينا صلى الله عليه وآله وسلم مات بعد أن تركنا على محجة بيضاء ليلها كنهارها، والذي عُلم من الدين بالضرورة أنه لا نبي بعده، وأن الأمة رُهِن بقاؤها عزيزة ومنتصرة وقوية بتمسكها بما انتصر به نبيها صلى الله عليه وآله وسلم، فكل انتصار وإنجازٍ وتفوق أصابته هذه الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وآله وسلم فإنما هو ثمرة لتطبيق سيرته واقتفاء سنته لقد انتصر صلى الله عليه وآله وسلم بدينه، وحكم بنظام منزل ومحكم، لا يحتاج من أراد العدل والسيادة غير التمسك به على الوجه الذي أراده منزله ومبلغه. وهنا تكمن حقيقة التوجه، وأيدلوجية السير، وهنا وُضِع المقياس الذي لا يُختلف عليه لكل انتصار أو إخفاق صاحَب المسلمين على مدى القرون السابقة، فلاشك ولا ريب في أن نبينا صلى الله عليه وآله وسلم مات بعد أن تركنا على محجة بيضاء ليلها كنهارها، والذي عُلم من الدين بالضرورة أنه لا نبي بعده، وأن الأمة رُهِن بقاؤها عزيزة ومنتصرة وقوية بتمسكها بما انتصر به نبيها صلى الله عليه وآله وسلم، فكل انتصار وإنجازٍ وتفوق أصابته هذه الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وآله وسلم فإنما هو ثمرة لتطبيق سيرته واقتفاء سنته. وإن كنا نرى كفة الإخفاقات راجحة، والنكبات متوالية، فإنا قد عرفنا سر نصرنا في الماضي، ونقيضه هو سر هزيمتنا في الحاضر . ومن عرف سر النصر عرف سر الهزيمة، وليس الشأن في هذه المعرفة، بل الشأن كل الشأن في توافق مضمونها وشكلياتها عند التطبيق، ومن اختلاف فهم هذه المعرفة نتج ما نراه ونلمسه على الواقع الإسلامي، فقد اختلفت الطرق المؤدية إلى الطريق الأول بين غالٍ في معرفته وتطبيقه وبين جافٍ عن تعاليمه وهديه، وبين من يخلط بين الأمرين فتراه يغلو في باب ويجفو في باب آخر، وتطورت تلك التباينات حتى وصل الأمر إلى أن الغالي يستبيح دم الجافي ديانةً، والجافي يستبيح دم الغالي دفعاً لمفسدته وحرابته، ولاشك أن الطرفين قد أضاعاا السبيل الموصل إلى العز والسؤدد. وهنا يأتي دور العلماء الربانيين، والأئمة المصلحين في إرشاد الناس إلى الطريق السوي، وإزاحة ما علق فيه من غلو وجفاء، وإظهار محاسن هذا الدين وعدله ورونقه وجماله، فإن الناظر إلى الدين بعين المنتقم من خصومه لا يرى منه إلا الجانب الذي يوظفه لنصرة انتقامه، والناظر فيه بعين الذلة والاستكانة والرضوخ للواقع المرير كذلك لا يرى منه إلا الجانب الذي يستدل به على استكانته ورضوخه، ومنتقدو الإسلام لا يرون منه إلا الجوانب التي يستدلون بها على عدائهم له ولا يرون مبررات الفعل وردته في حينه، وكما قيل : وعينُ الرِّضا عن كلَّ عيبٍ كليلة ٌ كما أَنّ عَينَ السُّخْطِ تُبْدي المَسَاوِيا ولكن في خضم هذه التباينات، وطغيان المضلات، وتباين الطرقات، فإن شمعة الأمل لا تنطفئ بوجود طائفة من العلماء يظهرون الحق كما هو، لا يمارون به ذا غلو ولا ذا جفاء، فلا يحملهم كثرة الغلاة وشدة أذيتهم واستفحال عاداتهم وتقاليدهم من تبيين الحق وإظهاره، وإن رموهم بكل لقب سيئ، فإن للغلو افتراءات يلصقها بأهل الحق، فتارة يسمهم بالتمييع، وتارة بالتبديع وتارة بالعمالة..الخ. كما أنهم لا يبالون بمن جفا إن رماهم بالتزمت والتشدد والغلو، فالتمسك بأخلاق نبيهم وهديه هو هدفهم ومنهاجهم. وإن نبينا صلى الله عليه وآله وسلم قد وصفه ربه فقال عنه (وإنك لعلى خلق عظيم) فكل ما ينافي هذه المنزلة وكل ما أبعد عن هذه الأخلاق غلواً أو جفاءً فإنه ليس من الدين، مهما ألبسه مدعيه وقائله لباس الإسلام فإن الإسلام بيّن، وقد قيل لمعاذ بن جبل رضي الله عنه حين حذر جلساءه من زلة العالم وجدال المنافق : رحمك الله كيف نفرق بين هذا وهذا ؟ قال : إن على الحق نورا. فالحق له في القلب وقع، والصواب له في العقل مدخل. وكما قال الإمام مالك رحمه الله : لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها. وأنا أزيد وأقول : كما أراد الله لا كما يريد الجفاةُ أو الغلاة.
مشاركة :